ديسمبر هو شهر مؤسف حقا... بالنسبة لي هو مفعم بالذكريات ، ليس لأنني ابتليت بأن ُخلِقت فيه ، و ابتليت ببرج القوس المتفائل المتشائم ، التعس المُبْهَج ... و لكن لأن الإرادة الإلهية جعلت منه مفعما بالتذكر و الذكرى ...
أذكر أعياد ميلادي - التي عادة لا أحتفل بها ، و أتوتر ان تذكرها أحد ، و لكنها غالبا ما حوت شيئا حميما على مدى أطياف السنوات - ، كما أذكر أن الشتاء يعود ، و أن المطر سيهطل مرة أخرى ، و أشتاق للاسكندرية..
أذكر ميلاد النجار في كهف مقفر في فلسطين، و أذكر كيف تغير العالم. أذكر محلات الأقباط قي شبرا و هليوبوليس و هي مزينة بالاحمر، أذكر حفلات و ترانيم حضرت بعضا منها ، في الأوبرا ، أو القلعة ، أو داخل كنائس صغيرة...
أذكر محلات الخمورفي وسط المدينة و جاردن سيتي و هي مكتملة الإضاءة ، و تبيع نبيذا للعشرات في عرض الطريق..
أذكر حفلات رأس السنة الماجنة ، و حفلات رأس سنة اقتصرت على فردين ، و ربما فرد واحد أحيانا.
أكتب من اجل ديسمبر بكل قسوته و حنينه ، و أكتب ما تذكرته اليوم...
أو ما تذكرت أنني قد رأيت و سمعت في ديسمبري هذا ..
و عذرا لعدم الترابط..
فهي القاهرة!
-١-
كنت أسير في زقاق في وسط المدينة ، قبل الأعياد بأيام ، و بينما أجتاز بين شارعين و جدت بائعا للأحذية المهربة على ما يبدو، قلت لمن معي : حسنا ، فرصة لأشتري حذاءا جيدا و رخيصا ، قالت هي: لن يحدث ذلك أبدا...
سألت: لماذا؟!
قالت: هذا المحل قد كان مكتبة في يوم ما ، و الآن هو محل أحذية ، لقد كنت قد اشتريت منه كتاب أشعار لراهب ياباني ..
لم أجب..
قالت : لن أستبدل الشاعر الياباني بحذاءك ، ابتَسَمت ، و انطلقنا....
-٢-
بعد ذلك بعدة أيام دار هذا الحوار
#1 to #2: look, let me introduce you to Ahmad ... he works as (....) ، I told you about him before i guess..
#2 to me: Hello, it's a great pleasure ...
ME: Hi ... the pleasure is mine
دار هذا الحوار بين ثلاثة من المصريين - أنا من بينهم - في الشارع بالقرب من ميدان العتبة....
و في اليوم التالي دعيت على عشاء كريسماسي عتيد
و قابلت عدد من اصدقاء قدامى ، و أناس جدد ، منهن فتاة أوروبية ، حدثتها بأسبانية متكسرة سائلا إن كانت تفضل الحديث بالاسبانية أم الانجليزية ، ردت في عربية قاطعة : لأ طبعا .. بالعربي .. أنا مصرية!!
الفتناة اسبانية قلبا و قالبا و لم تخطو مصر إلا منذ ثلاثة سنوات ، و تعتبر نفسها مصرية.
لم أفهم شيئا!
-٣-
نويبع - أول الشهر -، خطبة صلاة الجمعة في مسجد المدينة ، تحدث الخطيب عن الشرور ، و اجتنابها ، و كيف أن الشر مهلكة ، و ما شابه ذلك ، و أضاف : و زي ما النبي عليه السلام ما قال... ابعد عن الشر و غني له!
قال الناس : صدق رسول الله!
-٤-
في نفس هذا الديسمبر ، و على الصعيد الموسيقي ، فقد أصدر دامين رايس (واحد من أكثر المغنيين كآبة و ظلمة على هذا الكوكب ) ألبومه الثاني ، بعنوان ٩، و الألبوم يمتاز عن سابقه بأنه حتي أكثر قتامة ، و أغانٍ مثل
Accidental Babies , 9 crimes, Gray Room
هي أعمال لا أظن هناك ما يتجاوزها حزنا ، وواقعية في احيان كثيرة ، و لذا أعدت الاستماع إلى الألبوم الأول مرة أخرى ، ولاحظت أن أغنية
I remember
تلك التي أسرتني لأيام و أيام ، كان يتحدث فيها عن ديسمبر
داميان مواليد شهر ديسمبر ، برج القوس
(اضغط على آسماء الأغاني للاستماع)
-٥-
قبل عيد ميلادي بأيام ، جاءني تليفون من صديق حميم ، و كان يعمل على ترجمة نص يسمى (أوسكار و السيدة الوردية ) و كان قد أرسل لي بعضا من ترجمته ، و الحق فقد كانت ترجمة بديعة لنص شديد الروعة ، و النص عن طفل مصاب بالسرطان ، و يعلم أنه ميت خلال أيام ، و لكن هذا الطفل ، تقنعه السيدة الوردية بأن يكتب خطابات لربنا ...!!
و أن يكتب في كل يوم خطاب ، و يتخيل في كل خطاب أنه قد كبر عشرة سنوات ... و بالتالي ، فالنص عبارة عن خطابات موجهة للخالق ، بلُغة طفل في العاشرة ، و يسرد فيها حياة كاملة من حب و احباط و عشق و عراك، و دين و علم و كل ما مر في خياله ...
النص قد لمس قلبي بمنتهى اليسر حينما أرسل لي صديقي هذا على بريدي الالكتروني ترجمته لأول خطابات أوسكار:
و حينما انتهى الخطاب الأول كنت مشدوها بسحر النص و اللغة إلى أبعد مدى...عزيزي ربنا:
انا إسمي أوسكار، عندي 10 سنين،ولّعت في الكلب و القطة و البيت (و اتهيألي، إن السمك الذهبي اللي كان جوه البيت هوه كمان اتشوى من النار)، و باكتب لك لأول مرة، علشان قبل كده ما كانش عندي وقت – علشان المدرسة انت فاهم بقى ..." ـ
آدي الحكاية يا سيدي، و بمناسبة بقى أول جواب أنا شرحت لك الأحوال هنا في المستشفى اللي شايفيني فيها عقبة في طريق الطب و عاوز أطلب منك تنورني في الموضوع بتاعي: يعني أنا باختصار هاخف و لا لأ؟و ياريت لو تجاوبني آه أو لأ، يعني تحذف الإجابة الغلط و أنا هافهم، اتهيألي مش صعبة دي.
إلى اللقاء بكره، قبلاتي
أوسكار
ملحوظة: دلوقت أنا مش عارف عنوانك، هنعمل ايه بقى؟!" ـ
المهم ... حينما هاتفني صديقي هذا ، الذي ترجم النص ، سألني:
أليس عيد ميلادك في التاسع عشر؟
قلت : نعم!
قال: أتعرف أن أوسكار في النص بدأ أول خطاب في التاسع عشر من ديسمبر؟
قلت : ...
قال: أتعلم أنني عاكف عليها لأنهيها في يوم التاسع عشر من ديسمبر؟ ستكون هديتي لك ، أعلم أنك تحب النص!!!
في يوم التاسع عشر من ديسمبر - رغم كل أحداث هذا اليوم - فقد كانت معي أول نسخة مطبوعة من ترجمة هذا الكتاب ، مختومة بإهداء أعتقد أنه أرق ما وصلني في حياتي هذه قاطبة ، و كان الإهداء مذيلا بكلمة : القاهرة في التاسع عشر من ديسمبر
- ٦-
صدر لمحمود درويش نصا بعنوان "في حضرة الغياب" و أتى الديوان لمصر هذا الأسبوع ، و بهذة المناسبة تذكرت نصا من كتابه: "كزهر اللوز أو أبعد" ـ
إن مشيت على شارعٍ لا يؤدي إلى هاوية
قُل لمن يجمعون القمامة: شكراً!
إن رجعتَ إلى البيت، حيّاً، كما ترجع القافية
بلا خللٍ، قُلْ لنفسك: شكراً!
إن توقَّعتَ شيئاً وخانك حدسك،فاذهب غداً
لترى أين كُنتَ، وقُلْ للفراشة: شكراً!
إن صرخت بكل قواك، ورد عليك الصدى
"مَنْ هناك؟" فقل للهويّة: شكراً!
إن نظرتَ إلى وردةٍ دون أن توجعكْ
وفرحتَ بها، قل لقلبك: شكراً!
إن نهضت صباحاً، ولم تجد الآخرين معك
يفركون جفونك، قل للبصيرة: شكراً!
إن تذكرت حرفاً من اسمك واسم بلادك،
كن ولداً طيباً!
ليقول لك الربُّ: شكراً!ـ
قُل لمن يجمعون القمامة: شكراً!
إن رجعتَ إلى البيت، حيّاً، كما ترجع القافية
بلا خللٍ، قُلْ لنفسك: شكراً!
إن توقَّعتَ شيئاً وخانك حدسك،فاذهب غداً
لترى أين كُنتَ، وقُلْ للفراشة: شكراً!
إن صرخت بكل قواك، ورد عليك الصدى
"مَنْ هناك؟" فقل للهويّة: شكراً!
إن نظرتَ إلى وردةٍ دون أن توجعكْ
وفرحتَ بها، قل لقلبك: شكراً!
إن نهضت صباحاً، ولم تجد الآخرين معك
يفركون جفونك، قل للبصيرة: شكراً!
إن تذكرت حرفاً من اسمك واسم بلادك،
كن ولداً طيباً!
ليقول لك الربُّ: شكراً!ـ