لا زال العالم في حركة دؤوب ، و يبدو أن كل حال يزول حقا ، فبالكاد ما أن أبدأ في الظن و القول باستقرار وضع ما ، فإنه لا يلبث و يتغير و يتبدل ، و إن كنت أتوق في أيامي هذه لبعض من ثبات ، و استمرارية ، و لكن تبقى القاهرة بكل جنونها و تعقلها ، و إيقاعها اللاهث الناعس ، هي القبس الأوضح لتضارب الأمثلة و تضارب ما يحويه عقلي..
-أ-
أسكن في حي برجوازي نعم ، حتى أنني أحيانا أتحرج من ذكر اسمه ، ولم يكن ذلك توقا مني لضخ بعض النبل في عروقي ، و لا رغبة في معاشرة الفتيات الأجنبيات اللاتي يفيض بهن شارعي الصغير ، و لكن يبدوا لي أن في مجتمعنا القاهري المحافظ ، قد كان السكن في أحياء كهذه هو السبيل الوحيد لقضاء وقت مع الفتاة التي أحب ، طال أو قصر ، بدون القلق حول الرأي العام في المنطقة المحيطة ، و بدون أن أعقد قراني واهبا إياها لقب "مدام" ...
هذه الميزة ، جعلتني منذ عدة أشهر مواطنا صالحا من هذا الحي ، أعرف باعة صحفه ، و باعة الخضر ، و السوبرماركت يوصل لي البيض و اللبن بدون أن يسأل عن عنواني ، فهم يعرفوني بصوتي الآن عبر الهاتف ، و أصبحت لي حياة في حي آخر كنت بالكاد أدخله طوال حياتي.
و لكن يبدو أن طباع أهل سائر القاهرة ، و سكان هذه المناطق لا ينسجمان بيسر ، و خاصة مع شعور أهل الحي بخصوصيتهم - و هي حقيقة -، و ربما بفساد محيط المدينة خارجهم .
و قد حدث أن كنت أسير لاستوديو الرسم الذي يكتريه بعض أصدقائي ، قريب جدا من بيتي ، و الحق ساعدتهم في إيجاده ، أملا أن تكون لي جيرة من وجوه آلفها ، و بينما كنت متجها نحوهم فيما بعد منتصف لليل ، وجدت كلبين راقيين كبيرا الحجم يلهوان في الشارع الصغير الخافت الإضاءة ، اقترب مني أحدهم هازا ذيله ، فأشرت له أن يقترب - أحب الكلاب بشكل مرضي - فما كان منه إلا أن بدأ في النباح بعصبية ، مما أثار حفيظة زميله الأضخم الذي عدى نحوي و هو ينبح بجهير الصوت.
فأضحى الكلبان يحصرانني و خلفي شجرة بلوط ضخمة ، و الكلاب تزمجر و تنمعني من الحركة ، ثارت ثائرتي ، و أخذت أصرخ مناديا بوابي المنطقة ، فخرجوا ينظرون ، و يعودون سريعا لعماراتهم بلا أي مساعدة.
علمت أن الكلاب حتما لأحد البهوات ، و هم لا يريدون التورط مع شخص بدا عصبيا مثلي ، لم تمر ثوان حتى خرجت من عمارة عتيقة سيدة أربعينية بقميص نوم قصير ، منادية على الكلاب..
السيدة: ياللـه يا براوني ، ياللـه يا بكسي .. تعالوا (جريا نحوها في هدوء)
السيدة : بس خلاص ( السيدة تتكلم عامية بطيئة تنطقها بالضغط على الأحرف بطريقة سيدات المجتمع)
أنا: دول كلاب حضرتك؟.... طب هو ينفع كده؟
السيدة: إيه ؟.. حصلك إيه يعني ؟ ..هم كانوا عملولك حاجة؟!
أنا: و أنا حاستنَّى؟! و بعدين ما هو رعبني و عطلني ، و بقاله وقت بيهوهو علي!!
السيدة: يبقى انت أكيد أكيد .. مش من المنطقة!!
أنا: نعم....؟!؟ لأ من المنطقة!!!
السيدة: منين؟
أنا: ١٧ شارع كذا!! و بعدين و هو لازم أبقى من المنطقة عشان أمشي؟ مش ممكن أمر كمواطن عادي آمن؟
السيدة: ما هم واخدين على كل الناس هنا ، و كمان هو ما عملكش حاجة!!
أنا: يا فندم رعبني .. ما هو العض مش كل حاجة!
السيدة: مش عيب تبقى كبير كده و بتخاف؟! لازم تتعلم تبقى شجاع شوية!
أنا: ....
السيدة: يالله يا براوني ، و على فكرة ، انت أكيد مش من المنطقة!
و غابت في بهو عمارتها الرخامي .. تتبعها الكلاب ..
و الآن أصبحت جملة " انت أكيد مش من المنطقة" مثالا للتندر بيني و بين أصدقائي ، نقولها كلما أخفق شخص في فعل شيء ، و لكن زملائي الرسامين في الاستديو أصروا على جلب كلب ضخم ، و إطلاقه على السيدة يوما ما ، و سؤالها: " انت من المنطقة؟"
عموما سنرى ...
- ب -
قصة أخرى ، فلظروف تصوير خاصة ، كنت أبحث عن ستوديو تصوير فوتوغرافي قديم يعود لبدايات القرن العشرين ، سألت صديق لي مصور أرمني من زملاء البار ، قال أنه يرشح ستوديو كيروب في وسط المدينة ، قابلت صديقي العجوز ذات صباح ، و سرنا وئيدا و هو يتكيء على عصاه ، إلى أن وصلنا لعمارة كيروب، و وجدته قد عرض بعض صور قديمة جداللحياة السياسية في مصر في مدخل عمارته ، صعدنا ، دخلنا الشقة القديمة ذات السقف العال ، و الإضاءة الخافتة ، و الصور الملحمية ، استقبلنا هاجوب كيروبيان ، و هو فضي الشعر ، غالبا ما تجاوز السبعين ، و بابتسامة ودود أرانا المكان ، و انبرى يحكي لنا عن تاريخ المصورين الكبار في مصر ، من فان ليو ، زولا ، ألبان ، عبر سافاريان مرورا بالكثيرين ، و كان يظن نجاح الأجانب " أرمن و نمساويين" في هذا المجال في لثلاثينات و الأربعينات ، عائد لأن المصريين كانوا لا يثقون في أن يصورهم مصري ، و مع أن هاجوب هذا مصري خالص ، قولا و فعلا ، رغم عائلته الأرمنية ، إلا أنه كد ربح كثيرا من أسمه المستعجم هذا - وفقا لما قال - .
و هناك ، لفت نظري صورتان شديدتا الكبر ، و القدم ، لرجل أوروبي بنياشين و أوشحة ، أخبرني أنه ملك رومانيا ، و الصورتان تعودان للعشرينات ، و لهما بروازان ضخمان ، مذهبان و يحملان تاجا كبيرا أعلى البرواز في دقة لم أشهدها من قبل.
قال أنهما صورا على قماش حساس (بديل للورق في حينها) و تم تظهيرهما على ضوء النهار ، ثم تلوينهما باليد..
و لكن أهم ما لفت نظري ، كانت المرايات الموجودة في المكان ، و منها ما هو مثبت حول الشبابيك ، و بالسؤال علمت أنها "شراعة" كانت تستخدم قبل ظهور الفلاش ، لجلب ضوء اليوم من الخارج و توجيهه للداخل للتصوير به!
كان الرجل يصور بمرايات تعكس ضوء الشمس ، اسقط في يدي ، فإنني أصور بكاميرا ديجيتال ، و أعمل على تحسين الصور على الكمبيتر و لا أكف عن التذمر!
الخلاصة ، هذا كان إعلان دعائي لمحلات كيروب في شارع عماد الدين بالقرب من شريف ، الرجل يملك مجموعة ضخمة من إرث الصور يقتات منه ، و بالكاد يعمل الآن ، فأعتقد انه لا يطرق بابه أي راغب في التصوير في أزمنة كوداك فوتو ستورز.
- جـ -
بينما نحن جلوس على شرفة مقهى صغير يطل على المشهد الحسيني ، و ساحته الفسيحة ، كان الحوار يسري في عربية و انجليزية بين الحضور ، و كانت الجميلة روز تتحدث عن ذكرياتها مع المكان بطريقتها المختصرة و شديدة الإحكام في آن ، و كنت أسمع ، و بينما أعداد الحاضرين في آخذ في الازدياد ، و في نفس الوقت كانت تجلس عن بعد تلك الفتاة التي تروقني بشدة ، و بينما كذلك أهرب عادة من أي تجمع زاد عن الأربعة أفراد ، قمت على عجالة متعللا بشراء عروسة المولد .
و الحق كانت رغبة صادقة ، فقد لاحظت أن أبي لم يعد يأتي بها منذ ١٠ سنوات أو أكثر في دارنا ، أما عني ، فإنني أكتفي بعلبة الحلوى التي لا آكل أغلبها ، و لكني لا حظت أنني لم أر أيّاً من الباعة يعرض أو يبيع العروسة أو الحصان على الإطلاق.
سألت صبي القهوة (كان يبيع سيجارة ملفوفة لشخص ما) ، إن كان هناك من يبيع عرائس و أحصنة المولد - شعرت ببعض الخجل حينها - فرد بالإيجاب ، ووصف لي رجلا في شارع الموسكي.
سرت وحدي في الحي الذي كنت أغدوه طفلا مع جدتي طيب الله ثراها ، فقد كانت من سكان حي الحسين ، و كانت تسير بي طفلا دون السادسة مشترية الخضر و الخبز في شنطة خضارها المصنوعة من الحبال الرفيعة ، و القابلة للطي، و لا أذكر حينها أننا حملنا كيسا بلاستيكيا قط، و كانت لا تترك يدي أبدا ، و كنت أتضايق بشدة من كثرة الاتربة و الكسور في الشارع ، و المياه الموحلة التي أطأها بصندلي الصغير ، فقد كنت طفلا مدللا يقضي إجازة الصيف في القاهرة بعيدا عن قيظ الخليج ، و كنت هناك لا أنزل الشارع ، فقط نتحرك بسيارات مكيفة. و كانت تقص لي قصصا بينما نسير رحمها الله.
عثرت على البائع المقصود ، سألته ، فلم أجد سوى العرائس الصينية البلاستيكية ، مرتدية مسخا من ملابس ورقية أو قماشية شديدة التشوه و التخبط، مررت على ثلاثة غيره ، لم أجد سوى الصين أيضا.
سألت الأخير:
أنا: هو مالاقيش حد بيبيع عرايس مولد؟
البائع: ما هي قدامك أهيه يابيه!
أنا: يا سيدي لأ، عروسة بجد ، عروسة حلاوة!
البائع:آاااااه ، لا يا بيه ، ما تلاقيش خالص!
أنا: الموسكي كله مافيهوش ولا عروسة؟!
البائع: بص جرب تسأل في السيدة عيشة ، أو باب الشعرية، يعني بص في الحتت الشعبية.
أنا: شعبية؟!
البائع: آه يا صاحبي ، هنا ما تلاقيش.
لا أعلم ما هذا الزمان الذي جعل أهل الموسكي ، الغورية ينظرون لأحياء أخرى على أنها شعبية .. و لا أعلم ماذا سيقول أهل باب الشعرية ، و لا أعلم أين ذهبت عروسة المولد ، و حصان أبو زيد الهلالي، المغطى بورق ملون و مفضض.
عدت للشرفة/القهوة ، كانت روز تجلس وحدها بعدما انطلق غالب الحضور في جولاتهم الخاصة ، سألتني عن عروستها (فقد طلبت واحدة لنفسها هي الأخرى) ، حكيت لها ، قالت أنها حاولت مع حلواني في المنيل ، سألته عن العروسة ، قال أنه لا يأتي بها حتى لا يقول عنه الناس أنه متخلف!
أجابته روز بحكمتها المعهودة: بالعكس ، حيقولوا عليك أصيل...
- د -
فاصل إعلاني : أعتقد أن ما كتبه بيسو ، و أسماه روجرز ، هو أحد أفضل النصوص التي قرأتها في الآونة الأخيرة ، و لا أعلم ما سبب إصراره على تسمية هذا النص "لعبة" ، فقد ابتلانا الله بكتاب يكتبون ماهو أكثر تهلهلا ، و سخفا ، و لا يتحرجون من تسمية هرائهم هذا بالرواية ، أو النص النثري ، أو القص المنثور أو أي من هذا العبث، في حين أنني أرى روجرز كعمل أدبي قوي و مهم ، أدعو الناس لقرائته ، و عدم المشاركة في "اللعبة" ، فقط القراءة على موسقى بنك فلويد كما ينصح الكاتب ، و إن كنت قد قرأت نصفه الثاني على موسيقى جوتان بروجكت ، و أحدثت تأثيرا جيدا هي الأخرى.
التحميل من هذه الوصلة.
- هـ -
استيقظت صباح اليوم وحيدا في بيتي لأول مرة منذ فترة ليست بقليلة ، كان الجو هادئا إلا من موسيقى بطيئة تنساب لغرفة نومي من الشارع ، فتحت عينْي ، كانت الثامنة و الربع صباحا ، و أخذت أرهف السمع في كنه هذه الألحان ، كان قداسا.
يبدوا أن صوت صلوات أسبوع الآلام في الكنيسة الصغيرة في الشارع الصغير خلف بنايتي قد عرفت طريقها إلي ، شعرت بسلام ما ، و رغم كون اللغة غير مفهومة لي ، إلا أنني شعرت بألفة شديدة ،كانت الشمس تدخل غرفة نومي عبر ثنايا الشيش الطويل ، قلت هامسا " ... و اغفر لنا خطايانا ، لأننا نغفر للذين يسيئون إلينا ، و لا تدخلنا في التجربة ، و لكن نجنا من الشرير".
و أزحت الغطاء ، و نهضت ، كانت الزهور التي جلبتها من معرض زهور الربيع تتفتح ، مرسلة عبيرا في غرفتي ، رغم تحذيرات أصدقاء و صديقات بخطر وضع الزهور حيث أنام ، لكني لم أكترث ..
كنت سعيدا بأنني كما يوقظني الأذان فجرا (و ظهرا و عصرا....) اليوم يوقظني القداس ، فتحت الشباك ، كانت الشمس جميلة ، و الصوت الآن أوضح ..
بدون أن أغسل وجهي ..
رششت الزهور برذاذ الماء.
صنعت بعضا من شاي
فتحت جهازي
و بدأت في كتابة كل ما سبق
و لا زال القداس ينساب.....
-أ-
أسكن في حي برجوازي نعم ، حتى أنني أحيانا أتحرج من ذكر اسمه ، ولم يكن ذلك توقا مني لضخ بعض النبل في عروقي ، و لا رغبة في معاشرة الفتيات الأجنبيات اللاتي يفيض بهن شارعي الصغير ، و لكن يبدوا لي أن في مجتمعنا القاهري المحافظ ، قد كان السكن في أحياء كهذه هو السبيل الوحيد لقضاء وقت مع الفتاة التي أحب ، طال أو قصر ، بدون القلق حول الرأي العام في المنطقة المحيطة ، و بدون أن أعقد قراني واهبا إياها لقب "مدام" ...
هذه الميزة ، جعلتني منذ عدة أشهر مواطنا صالحا من هذا الحي ، أعرف باعة صحفه ، و باعة الخضر ، و السوبرماركت يوصل لي البيض و اللبن بدون أن يسأل عن عنواني ، فهم يعرفوني بصوتي الآن عبر الهاتف ، و أصبحت لي حياة في حي آخر كنت بالكاد أدخله طوال حياتي.
و لكن يبدو أن طباع أهل سائر القاهرة ، و سكان هذه المناطق لا ينسجمان بيسر ، و خاصة مع شعور أهل الحي بخصوصيتهم - و هي حقيقة -، و ربما بفساد محيط المدينة خارجهم .
و قد حدث أن كنت أسير لاستوديو الرسم الذي يكتريه بعض أصدقائي ، قريب جدا من بيتي ، و الحق ساعدتهم في إيجاده ، أملا أن تكون لي جيرة من وجوه آلفها ، و بينما كنت متجها نحوهم فيما بعد منتصف لليل ، وجدت كلبين راقيين كبيرا الحجم يلهوان في الشارع الصغير الخافت الإضاءة ، اقترب مني أحدهم هازا ذيله ، فأشرت له أن يقترب - أحب الكلاب بشكل مرضي - فما كان منه إلا أن بدأ في النباح بعصبية ، مما أثار حفيظة زميله الأضخم الذي عدى نحوي و هو ينبح بجهير الصوت.
فأضحى الكلبان يحصرانني و خلفي شجرة بلوط ضخمة ، و الكلاب تزمجر و تنمعني من الحركة ، ثارت ثائرتي ، و أخذت أصرخ مناديا بوابي المنطقة ، فخرجوا ينظرون ، و يعودون سريعا لعماراتهم بلا أي مساعدة.
علمت أن الكلاب حتما لأحد البهوات ، و هم لا يريدون التورط مع شخص بدا عصبيا مثلي ، لم تمر ثوان حتى خرجت من عمارة عتيقة سيدة أربعينية بقميص نوم قصير ، منادية على الكلاب..
السيدة: ياللـه يا براوني ، ياللـه يا بكسي .. تعالوا (جريا نحوها في هدوء)
السيدة : بس خلاص ( السيدة تتكلم عامية بطيئة تنطقها بالضغط على الأحرف بطريقة سيدات المجتمع)
أنا: دول كلاب حضرتك؟.... طب هو ينفع كده؟
السيدة: إيه ؟.. حصلك إيه يعني ؟ ..هم كانوا عملولك حاجة؟!
أنا: و أنا حاستنَّى؟! و بعدين ما هو رعبني و عطلني ، و بقاله وقت بيهوهو علي!!
السيدة: يبقى انت أكيد أكيد .. مش من المنطقة!!
أنا: نعم....؟!؟ لأ من المنطقة!!!
السيدة: منين؟
أنا: ١٧ شارع كذا!! و بعدين و هو لازم أبقى من المنطقة عشان أمشي؟ مش ممكن أمر كمواطن عادي آمن؟
السيدة: ما هم واخدين على كل الناس هنا ، و كمان هو ما عملكش حاجة!!
أنا: يا فندم رعبني .. ما هو العض مش كل حاجة!
السيدة: مش عيب تبقى كبير كده و بتخاف؟! لازم تتعلم تبقى شجاع شوية!
أنا: ....
السيدة: يالله يا براوني ، و على فكرة ، انت أكيد مش من المنطقة!
و غابت في بهو عمارتها الرخامي .. تتبعها الكلاب ..
و الآن أصبحت جملة " انت أكيد مش من المنطقة" مثالا للتندر بيني و بين أصدقائي ، نقولها كلما أخفق شخص في فعل شيء ، و لكن زملائي الرسامين في الاستديو أصروا على جلب كلب ضخم ، و إطلاقه على السيدة يوما ما ، و سؤالها: " انت من المنطقة؟"
عموما سنرى ...
- ب -
قصة أخرى ، فلظروف تصوير خاصة ، كنت أبحث عن ستوديو تصوير فوتوغرافي قديم يعود لبدايات القرن العشرين ، سألت صديق لي مصور أرمني من زملاء البار ، قال أنه يرشح ستوديو كيروب في وسط المدينة ، قابلت صديقي العجوز ذات صباح ، و سرنا وئيدا و هو يتكيء على عصاه ، إلى أن وصلنا لعمارة كيروب، و وجدته قد عرض بعض صور قديمة جداللحياة السياسية في مصر في مدخل عمارته ، صعدنا ، دخلنا الشقة القديمة ذات السقف العال ، و الإضاءة الخافتة ، و الصور الملحمية ، استقبلنا هاجوب كيروبيان ، و هو فضي الشعر ، غالبا ما تجاوز السبعين ، و بابتسامة ودود أرانا المكان ، و انبرى يحكي لنا عن تاريخ المصورين الكبار في مصر ، من فان ليو ، زولا ، ألبان ، عبر سافاريان مرورا بالكثيرين ، و كان يظن نجاح الأجانب " أرمن و نمساويين" في هذا المجال في لثلاثينات و الأربعينات ، عائد لأن المصريين كانوا لا يثقون في أن يصورهم مصري ، و مع أن هاجوب هذا مصري خالص ، قولا و فعلا ، رغم عائلته الأرمنية ، إلا أنه كد ربح كثيرا من أسمه المستعجم هذا - وفقا لما قال - .
و هناك ، لفت نظري صورتان شديدتا الكبر ، و القدم ، لرجل أوروبي بنياشين و أوشحة ، أخبرني أنه ملك رومانيا ، و الصورتان تعودان للعشرينات ، و لهما بروازان ضخمان ، مذهبان و يحملان تاجا كبيرا أعلى البرواز في دقة لم أشهدها من قبل.
قال أنهما صورا على قماش حساس (بديل للورق في حينها) و تم تظهيرهما على ضوء النهار ، ثم تلوينهما باليد..
و لكن أهم ما لفت نظري ، كانت المرايات الموجودة في المكان ، و منها ما هو مثبت حول الشبابيك ، و بالسؤال علمت أنها "شراعة" كانت تستخدم قبل ظهور الفلاش ، لجلب ضوء اليوم من الخارج و توجيهه للداخل للتصوير به!
كان الرجل يصور بمرايات تعكس ضوء الشمس ، اسقط في يدي ، فإنني أصور بكاميرا ديجيتال ، و أعمل على تحسين الصور على الكمبيتر و لا أكف عن التذمر!
الخلاصة ، هذا كان إعلان دعائي لمحلات كيروب في شارع عماد الدين بالقرب من شريف ، الرجل يملك مجموعة ضخمة من إرث الصور يقتات منه ، و بالكاد يعمل الآن ، فأعتقد انه لا يطرق بابه أي راغب في التصوير في أزمنة كوداك فوتو ستورز.
- جـ -
بينما نحن جلوس على شرفة مقهى صغير يطل على المشهد الحسيني ، و ساحته الفسيحة ، كان الحوار يسري في عربية و انجليزية بين الحضور ، و كانت الجميلة روز تتحدث عن ذكرياتها مع المكان بطريقتها المختصرة و شديدة الإحكام في آن ، و كنت أسمع ، و بينما أعداد الحاضرين في آخذ في الازدياد ، و في نفس الوقت كانت تجلس عن بعد تلك الفتاة التي تروقني بشدة ، و بينما كذلك أهرب عادة من أي تجمع زاد عن الأربعة أفراد ، قمت على عجالة متعللا بشراء عروسة المولد .
و الحق كانت رغبة صادقة ، فقد لاحظت أن أبي لم يعد يأتي بها منذ ١٠ سنوات أو أكثر في دارنا ، أما عني ، فإنني أكتفي بعلبة الحلوى التي لا آكل أغلبها ، و لكني لا حظت أنني لم أر أيّاً من الباعة يعرض أو يبيع العروسة أو الحصان على الإطلاق.
سألت صبي القهوة (كان يبيع سيجارة ملفوفة لشخص ما) ، إن كان هناك من يبيع عرائس و أحصنة المولد - شعرت ببعض الخجل حينها - فرد بالإيجاب ، ووصف لي رجلا في شارع الموسكي.
سرت وحدي في الحي الذي كنت أغدوه طفلا مع جدتي طيب الله ثراها ، فقد كانت من سكان حي الحسين ، و كانت تسير بي طفلا دون السادسة مشترية الخضر و الخبز في شنطة خضارها المصنوعة من الحبال الرفيعة ، و القابلة للطي، و لا أذكر حينها أننا حملنا كيسا بلاستيكيا قط، و كانت لا تترك يدي أبدا ، و كنت أتضايق بشدة من كثرة الاتربة و الكسور في الشارع ، و المياه الموحلة التي أطأها بصندلي الصغير ، فقد كنت طفلا مدللا يقضي إجازة الصيف في القاهرة بعيدا عن قيظ الخليج ، و كنت هناك لا أنزل الشارع ، فقط نتحرك بسيارات مكيفة. و كانت تقص لي قصصا بينما نسير رحمها الله.
عثرت على البائع المقصود ، سألته ، فلم أجد سوى العرائس الصينية البلاستيكية ، مرتدية مسخا من ملابس ورقية أو قماشية شديدة التشوه و التخبط، مررت على ثلاثة غيره ، لم أجد سوى الصين أيضا.
سألت الأخير:
أنا: هو مالاقيش حد بيبيع عرايس مولد؟
البائع: ما هي قدامك أهيه يابيه!
أنا: يا سيدي لأ، عروسة بجد ، عروسة حلاوة!
البائع:آاااااه ، لا يا بيه ، ما تلاقيش خالص!
أنا: الموسكي كله مافيهوش ولا عروسة؟!
البائع: بص جرب تسأل في السيدة عيشة ، أو باب الشعرية، يعني بص في الحتت الشعبية.
أنا: شعبية؟!
البائع: آه يا صاحبي ، هنا ما تلاقيش.
لا أعلم ما هذا الزمان الذي جعل أهل الموسكي ، الغورية ينظرون لأحياء أخرى على أنها شعبية .. و لا أعلم ماذا سيقول أهل باب الشعرية ، و لا أعلم أين ذهبت عروسة المولد ، و حصان أبو زيد الهلالي، المغطى بورق ملون و مفضض.
عدت للشرفة/القهوة ، كانت روز تجلس وحدها بعدما انطلق غالب الحضور في جولاتهم الخاصة ، سألتني عن عروستها (فقد طلبت واحدة لنفسها هي الأخرى) ، حكيت لها ، قالت أنها حاولت مع حلواني في المنيل ، سألته عن العروسة ، قال أنه لا يأتي بها حتى لا يقول عنه الناس أنه متخلف!
أجابته روز بحكمتها المعهودة: بالعكس ، حيقولوا عليك أصيل...
- د -
فاصل إعلاني : أعتقد أن ما كتبه بيسو ، و أسماه روجرز ، هو أحد أفضل النصوص التي قرأتها في الآونة الأخيرة ، و لا أعلم ما سبب إصراره على تسمية هذا النص "لعبة" ، فقد ابتلانا الله بكتاب يكتبون ماهو أكثر تهلهلا ، و سخفا ، و لا يتحرجون من تسمية هرائهم هذا بالرواية ، أو النص النثري ، أو القص المنثور أو أي من هذا العبث، في حين أنني أرى روجرز كعمل أدبي قوي و مهم ، أدعو الناس لقرائته ، و عدم المشاركة في "اللعبة" ، فقط القراءة على موسقى بنك فلويد كما ينصح الكاتب ، و إن كنت قد قرأت نصفه الثاني على موسيقى جوتان بروجكت ، و أحدثت تأثيرا جيدا هي الأخرى.
التحميل من هذه الوصلة.
- هـ -
استيقظت صباح اليوم وحيدا في بيتي لأول مرة منذ فترة ليست بقليلة ، كان الجو هادئا إلا من موسيقى بطيئة تنساب لغرفة نومي من الشارع ، فتحت عينْي ، كانت الثامنة و الربع صباحا ، و أخذت أرهف السمع في كنه هذه الألحان ، كان قداسا.
يبدوا أن صوت صلوات أسبوع الآلام في الكنيسة الصغيرة في الشارع الصغير خلف بنايتي قد عرفت طريقها إلي ، شعرت بسلام ما ، و رغم كون اللغة غير مفهومة لي ، إلا أنني شعرت بألفة شديدة ،كانت الشمس تدخل غرفة نومي عبر ثنايا الشيش الطويل ، قلت هامسا " ... و اغفر لنا خطايانا ، لأننا نغفر للذين يسيئون إلينا ، و لا تدخلنا في التجربة ، و لكن نجنا من الشرير".
و أزحت الغطاء ، و نهضت ، كانت الزهور التي جلبتها من معرض زهور الربيع تتفتح ، مرسلة عبيرا في غرفتي ، رغم تحذيرات أصدقاء و صديقات بخطر وضع الزهور حيث أنام ، لكني لم أكترث ..
كنت سعيدا بأنني كما يوقظني الأذان فجرا (و ظهرا و عصرا....) اليوم يوقظني القداس ، فتحت الشباك ، كانت الشمس جميلة ، و الصوت الآن أوضح ..
بدون أن أغسل وجهي ..
رششت الزهور برذاذ الماء.
صنعت بعضا من شاي
فتحت جهازي
و بدأت في كتابة كل ما سبق
و لا زال القداس ينساب.....
بالرغم من انى "مش من المنطقة" الا انى اول واحدة حتكتب تعليق ... هيييه!
ردحذفاستمتعت بجد و انا باتجول معاك من الحى البرجوازى لستوديو المصور و حى سيدنا الحسين و معرض الزهور ... و شكرا على الفاصل الموسيقى
فكرتنى فى نهاية يومى اللى ماكنش سعيد بان القاهرة فيها من التنوع و التعددية اللى بيخلينى مرتبطة بيها
و اللى يدور فيها على البهجة حيلاقيها زى ما حيلاقى المنغظات اللى مالهاش حصر
المهم الواحد بيبحث عن ايه
المقطع الاول في التدوينة بيفكرنى بالاسلوب السردى اللى موجود في فيلم أرض الخوف لداود عبد السيد
ردحذف:-)
نياه نياه نياه
انت اكيد من المنطقة دى
ردحذفاكيد انت قريب اوى وصاق جدا
مذهلة فكرة ان اهل الموسكى والغورية شايفين السيدة مناطق شعبية نفس الكلام بسمعه فى مناطق عديدة منها اهالى حلوان وعلاقتهم باهالى المعصرة وطرة لكنها طول الوقت فكرة قادرة على ان توقفنى كثيرا للاندهاش
التدوينه اشبه بلقطات سينمائية جميلة جدا وصوت القداس نهاية ساحرة
ملحوظة اخيرة
انا كمان شايف ان نص بيسو من اجمل ما قرات فى الفترة الاخيرة
جميله جدا هذه اللقطات..
ردحذفأحزننى أختفاء عروسه المولد رغم أنى ف أخر الدنيا..
أظن هناك لقطه فى "شئ من الخوف" فيها يبحث عتريس عن عروسه مولد ليتقرب الى فؤاده بها..قفز الى ذهنى هذا المشهد وأنا أقرء ماكتبت..
تذكرت صوت القداس القبطى الجميل والذى كان يتسرب لنا من كنيسه سانت فاتيما أو "ست فاتيما" كما كنا نسميها ونحن أطفال فى مصر الجديده..
شكرا على جرعه النوستالجيا وكل سنه وأنت طيب...تحياتى ...خالد
صديقى أحمد
ردحذفكأنك تنسق صور بدلاً من الكلمات.
بالنسبة للقهوجى الذى يبيع سيجارة ملفوفة جعلنى أفكر فى أمستردام والذهاب إلى مقهى للتمتع بشرب القهوة وتدخين سيجارة ملفوفة والعودة فى المساء.جنون أملكه منذ صغرى عندما كنت أسافر من الأسكندرية إلى القاهرة لأكل الكشرى
والعودة مساءاَ.
روجرز جميلة ولم أفهم أيضاً لماذا يسميها لعبة قرأتها ولكن بموسيقى مختلفة أتمنى أن يغفر لى ذلك.
بيسو بالمناسبة كتب تدوينة جديدة لها علاقة بالكلاب ولكنه يتعامل فيها بشكل مختلف مع صاحبة الكلاب.
تحياتى
بس انا عندى ملحوظة اتا خالتى جابت لنا البيت عروسة حلاوة عادى يعنى الاسبوع اللى فات
ردحذفمش عارف
يمكن علشان انا من المنصورة
حقاً
ردحذفهل أصبحت العروسة و الحصان الحلاوة من الماضي
خبر محزن
مازلت أذكر الخناقة المعتادة كل عام مع أمي لتشتري لنا العروسة و الحصان مع رفضها المستميت لأسباب صحية و عادةً كانت ما تنتهي الخناقة كل عام بأن تأتي لنا جدتي بهما برغم الاعتراضات و التأفف من أمي
أرجو أن تفكر بعض محلات الحلوى المحترمة في إعادة انتاجهم بصورة محترمة
تحياتي
عزيزى أحمد
ردحذفازيك و عامل ايه وحشتنى جداً كتابتك و مكسوف منك انى مختفى, بس انتا عارف بقه ظروف الحياه
التدوينه جامده أوى, خلتنى أبص من خلال عينيك على مواقف يوميه بتعدى على الواحد ساعات مابياخدش باله انها حصلت أصلاً, و الراجل المصوراتى ده فكرنى بنوعية الناس دى اللى بتختفى من حياتنا, فين الناس الكبار بياعين الكتب القديمه, و محلات الطوابع و محلات التصوير و الترزيه البلدى, كلها آخذه فى الانقراض. بالمناسبه موضوع الكلاب ده فكرنى بواحد صاحبى فى مصر الجديده كانت بتنبح عليه كلب, و عندما حاول اقناع السيده العجوز صاحبة الكلب بالخطر الذى يشكله على الماره, قالت له: أنا الكلب بتاعى مش بيهوهو الا على الناس الوحشه, أكيد انتا انسان مش كويس, صاحبى قاللها على أساس ان كلب حضرتِك بيشم الأفكار؟ بصوا لبعض بصه بلهاء و كل واحد راح فى حال سبيله
اديها تدوين كمان و كمان, و أنا هحاول أهريك تعليقات :)