٢٥‏/٠٢‏/٢٠٠٩

التعلُّم

لاسباب جغرافية و مادية بحتة ، لم أحظ في تعليمي الإلزامي بالدراسة في أي مدرسة غير حكومية - باستثناء سنة في مدرسة خاصة انتقالية لا أذكرها كثيرا - حيث كنا نعيش في مدينة ساحلية صغيرة في الثمانينات - مرحلة الابتدائية - ، و كانت بالمدينة مدرستين لا ثالث لهما ، كلتاهما خاضعتان للوزارة.
الأولي في قلب المدينة ، و الثانية تطرفت في ضواحيها، و بالتالي كان قدري أن قضيت مراحل الابتدائية و الاعدادية و جزء من ثانويتي فيها. الأمر الذي اختلف عني فيه أخوتي و أخواتي الأصغر حينما تم افتتاح مدرسة خاصة تعلم الانجليزية في سنوات لاحقة ، و كانت لمدرستهم هذه توجه اسلامي مريب، فلم نكن نعرف حينها مدارس تحفظ القرآن إلا الأزهرية ، و تخرج فيها كل أخوتي و أخواتي فيها ما عداي لأنني أكبرهم.

أسوق ذلك مفتتحا ، و ابطالا لسؤال مكرر يأتيني من المرور على المدونة ، و الضاغطين على زر الدردشة ، و السائلين إن كنت قد درست في أوروبا ، أو أنني مجرد خريج آخر من الجامعة الامريكية ، و أجهل تماما سر هذا التصور الذي تكرر كثيرا فعلا. ولا أجد له مبررا سوى أنني أضع وصلات لأغان غربية. خاصة مع ضعف أعتقده في انجليزيتي و اسبانيتي و مؤكد عربيتي أيضا.

الصورة من فليكر


مدرستنا هذه كانت رائعة المعمار ، ممتلئة بالخضرة ، و تألفت من مجموعة مبان بطابقين ، و لها سقف عال جدا و مشمسة دوما ، و يقوم مستثمرو المدينة بأعمال صيانة دورية. و كنا جميعا نقود دراجاتنا للمدرسة صباحا ، فتجد صفا من عشرات الدراجات في مكان مخصص عند المدخل ، يشبه اماكن وقوف الدراجات بالعاصمة الهولندية كثيرا. و كان المدرسون يظنون - خطئا - أنني انطق عربية سليمة ، و ذلك لعادة تخليت عنها لاحقا متعلقة بتعطيش حرف الچيم ، كنت قد اكتسبتها من ثلاث سنوات دراسة أولى في بلاد النفط . و بالتالي جعلوا مني قارئا بالإذاعة المدرسية لسنوات . و باختياري رئيسا للفصل ، ثم رئيسا للكشافة حصلت على بضعة مزايا تافهة ، منها حذفي بشكل حبي من قائمة الحضور و الغياب اليومية في الفصل .

اليوم عادت إلي صور من هذه الحقبة الضبابية في عقلي الآن ، فتبدو تلك المدينة الأخرى بعيدة ، فلم تطأها قدماي منذ ١٠ سنوات ربما منذ عصور الثانوية العامة ، و ابدو انا نفسي ضبابيا كلما اجاهد لأراني شابا يركب دراجة عبر الحدائق ، في أمطار الشتاء . مرتديا منديل الكشافة ، و قبعة لا أذكر لونها ، أظنها خضراء.

مع الأحداث الأخيرة المرعبة ، أعرف مدى رداءة التعليم الذي حصلنا عليه في هذه المدرسة ، و إلي أي مدى أسهم هؤلاء المدرسون في خلق شباب جيلنا ،و الذين كانوا أصحابي الوحيدين و أثروا في أيضا ، فتكاد تكون حلقة محكمة الإغلاق على كل المدخلات و الثقافات التي تشربتها طفلا و مراهقا..لذا أحاول هنا تذكر أهم هؤلاء المدرسين ، و لسبب أجهله.



الصورة من فليكر


-مِس عبير-

لا أظن هناك شعور بالخذلان أقوى من أن يمتلك الطفل من المعرفة أكثر من مدرّسِه ، شعور بالعدمية و اللاجدوى في آن .
مس عبير ، كانت تدرس لفصول أصغر منا ، و لكنها كانت تأتينا في حصص "الاحتياطي" دائما. كانت الوحيدة التي ترتدي الإسدال بالمدرسة ، و كانت نصف مدرسات المدرسة هن فقط المحجبات في حينها.
جاءت يوما في حصة احتياطي ، و قالت أنها متعبة ، و اسندت رأسها و نامت على مكتب المدرس ، دقائق قليلة و فتحت أعينها ، و كأنما شاهدت رؤيا .
قالت: الحصة الاحتياطي مش حصة للعب ، لان الله سبحانه و تعالى حيحاسبني على الوقت اللي قضيته معاكم ، عشان كده ، لازم "تنهلوا من العلم" ، ثم وقفت و بدأت تكتب علي السبورة الآتي:
صلاة الفجر - ركعتان قبلها
الظهر - أربع ركعات قبلها
فهمنا أنها تكتب الصلوات السنن التي يجب أن نصليها ، و لكن ما فاجأني هو انها كتبت الآتي بالحرف الواحد.
سلاة الفجر - ركعتن قبله
سلاه الضهر - اربعة ركعة قبله
جعلت أبحلق في السبورة مشدوها بما أري ، لم أتمالك نفسي ، قمت و قلت : "يا ميس ، كل اللي حضرتك كاتباه غلط. ولا كلمة من دول بتتكتب كده."
انهالت علي بوابل من التوبيخ ، و طردتني من الفصل
و حتى الآن لم أعرف أبدا كيف كانت تدرس مادتها للفصول الأخرى. بإمكانياتها اللغوية تلك .


- أ. محب -

الأستاذ محب كان رجلا طبقيا جدا ، اول العام الدراسي سألنا أسئلة من نوع :
"مين باباه عنده عربية؟ مين ساكن في شقة و مين في ڤيلا؟ مين ساكن في الحي الفلاني ؟ مين اهلو بيتكلمو انجليزي ؟ مين معاه كلينكس في جيبه؟"
و بناء على ذلك قسم الفصل طبقا لاجاباته و رتب أماكن جلوس الطلبة.
و الحقيقة لا بد من القول أن المدرسة تلك كانت فقاعة اجتماعية ، لم و لن تتكرر ، فظروف المدينة الصغيرة أدت إلى أن أصبح اقطاعيوها و معوزوها يرسلون أولادهم لنفس المدرسة ، ففي نفس الفصل جلس أبناء دبلوماسيين ، و متعددو الجنسيات ، و أبناء مستثمري المصانع ، جنبا إلى جنب مع أولاد المزارعين و عمال نفس المصانع التي يملكها طلبة زملاؤهم.
و كان يحدث أن يعتذر طلبة عن الحضور لأنهم يعملون في الحقل في موسم ما يساعدون أهلهم في الحصاد ، في حين يعتذر آخرون عن الحضور لان الرئيس الفرنسي يزور مصانع عائلاتهم ، و سيرافقون ذويهم لمقابلته. هكذا كانت الأجواء.
عودة لمحب ، الرجل كان يضرب الطلبة بلا هوادة ، ولسبب ما - طبقي اعتقد - استثنى بضعة منا من العقاب المتعسف ، و كنت منهم.
كانت ممارسته الفضلى هي التعليق على الباب ، و علمت حينما كبرت أنها من ممارسات التعذيب باقسام الشرطة ، حيث يضع الطالب يديه من خلفه ، و يكون الحلق العلوي للباب بين ذراعيه و ظهره فيما تحت إبطيه ، مما يسبب حزا شديدا و ألما فائقا بفعل ثقل الجسم المعلق ، و كان إما يترك الطالب لوقت حتى يتأذى و يهتريء ما بين ساعديه ، أو يضرب باطن قدمه العاري أثناء ذلك.

لسبب أجهله ، زار محب دارنا بعد عدة من تخرجي - و أظنه أتى مع صديق لوالدي من المدينة القديمة - رفضت مقابلته و السلام عليه . غادر متأثرا ، لكنني لم أنسى بكاء الأطفال عاليا فوق الباب ليومنا هذا.


- أ. حسام -

الأستاذ حسام ، كان مدرس الدين و اللغة العربية ، و هو من ابتدع مقولة: السلام عليكم ، كتحية رسمية عند دخوله الفصل عوضا عن صباح الخير. ثم تبناها بقية المدرسون في المدرسة .
كانت حياتنا تتغير مع بداية التسعينات ، و نلمس المنحى الاكثر تشددا من الاسلام رويدا رويدا .
في يوم وقف الاستاذ حسام يحدثنا عن العادة السرية ، كان يتحدث عربية سليمة و ان كانت معدومة التأثير أو الكاريزما، قال من جملة ماقال: " هذه العادة حرام ، و من يدمنها سيضعف جسده حتما ، و يضعف بصره ، و تتكاثر الحبوب في وجهه ، و لن يعاود الانتصاب عند الزواج "
قال أحدهم (اسمه مكرم ، كتبت عنه سابقا ) : " يا استاذ انا بامارسها من سنة و ما بيحصليش اي مشاكل ، و بعدين مافيه متجوزين بيجتمعوا بزوجاتهم اكثر من مرة في اليوم ، هل بتظهر عليهم الأعراض دي؟"
قال أ. حسام: " يا مكرم لا تجاهر بالمعصية ، و تب إلى الله من هذا الفعل ، و إن كنت تقرأ أو تتابع احدث اكتشافات العلم لكنت عرفت أنه آثناء الجماع تكون فتحة قضيب الذكر مفتوحة عن آخرها ، فتدخل منها سوائل من مهبل المرأة ،هذه السوائل مليئة بالمقويات التي تعوض ما يفقده الزوج عند القذف"
همس مكرم في أذني بعد الحصة: " سيبك من اللي بيقوله ده ، ده كلام فارغ و مش علمي! انا باسرتن ٥ مرات في اليوم و باشيل حديد ، اصلا صحتي بتتحسن!"


- مس نجوى -

مس نجوى كانت محجبة حجابا يظهر أكثر مما يخفي ، فقد كانت في مرحلة الانتقال كسائر البلد . و كان الحجاب جديدا عليها و هي تشرف على العقد الرابع.
كانت تدرسنا الجغرافيا و كانت تنطق الاسماء بطريقة مؤسفة فتقول "كمبوتيشيا - Cambotishya" بدلا من كمبوديا ، و تقول حُمُّص بدلا من حِمص السورية ، و مرة كانت تؤكد لنا أن في كل دولة عربية مدينة بنفس اسمها ، مثل الجزائر و الكويت و تونس.
و من معارفي الضئيلة فكرت أن هذه استثناءات و ليست قاعدة ، بدليل أن ليس في مصر مدينة اسمها مصر ، عبرت عن ذلك ، قالت بلا تردد:" هو انت لما بتسافر القاهرة ، مش بتقول انا نازل مصر؟"
و كانت مقتنعة تماما.
السيدة عرفناها شديدة العنف أيضا ، كان لديها عصا تشبه رجل كرسي القهوة الخشبية السميكة ، أو هي حقا رجل لكرسي قديم ، غليظة جدا ، حتى ان الضرب بها على اليد لن يجدي كثيرا.
كانت تضرب بها على الرأس.وبشكل مباغت.
و حدث مرة أن نزف طالب من منبت الشعر في رأسه من جراء ضربة واحدة خاطفة.
أتانا بضمادة أعلى رأسه في اليوم التالي و بجواره أبيه واعداً المدرسة بان ابنه لن يكرر خطأه ، و طلب منه أن يعتذر لها ، قالت : "مش حاقبل اعتذارك ، بس من هنا ورايح تذاكر ، و نبقى نشوف"
الحقيقة هي ضربته ونزف لانه لم يعرف اجابة سؤال منهجي أبله.


الصورة من فليكر


على الرغم أنني أنا شخصيا كنت من أقل المتعرضين للعنف الجسدي ، أو اللفظي في المدرسة ، إلا أنه قد ترك في أثرا بالغا ، على الأقل الرؤية و التعاطي اليومي مع هذا الواقع .
و الحقيقة ، حينما يلقي مدرس بالطالب من الدور الثاني ، فإنني لا أظن في هذا العام - في المدرسة محل الحادث - سيصبح لتحصيل العلم أيه قيمة في نفوس الطلبة ، باستثناء تعاطيهم مع المدرسة كحلقة أخري في مسلسل الخوف اليومي ، سواء من الاسرة ، أو من الشارع ، أو من السلطة ، و القائمة تطول.


يقول پول سيمن ، مغني المفضل :

When I think back , On all the crap I learned in high school.
It’s a wonder I can think at all.
And though my lack of education Hasn’t hurt me none.
I can read the writing on the wall








الحقيقة أتفق تماما..




هناك ٤ تعليقات:

  1. Is that what all this teaching is needed to scout?
    You seemed to have a bad effect
    Your rules and contradictions, I would neglect
    Though not my fault, you made me feel
    Like my own education wasn't truly real
    ******
    artist: FlAW
    song :WHOLE
    اعتقد ان اكبر جريمة بترتكب في حق الاطفال المصريين اولا هو ان اهلهم خلفوهم اصلا وجابوهم للبكابورت الكبير المسمي مصر
    ثانيا : التعليم .. اعتقادي المتواضع ان الاسثثمار في التعليم في مصر استثمار فاشل لو كل اب وام شالوا لاولادهم الفلوس اللي كانوا هيصرفوها عليهم في التعليم هيبقي افضل كتير
    *******
    have a nice day

    ردحذف
  2. السيء أن يقوم مدرس بضرب تلميذ.. والأسوأ أن يضربه لأنه أجاب إجابة خاطئة "على سؤال منهجي"..

    شكراً

    ردحذف
  3. مرة و أنا فى ثانوية عامة, مدرس الغة الإنجليزية كان بيحاول يقنعنى, فى درس عن الكلمات الإنجليزى اللى أصلها عربى, أن كلمة write down أصلها كلمة "يُدَوِّنْ"

    ردحذف
  4. غير معرف٢/٢٨/٢٠٠٩

    الحقيقة موضوع جميل ومدونة روعة

    http://egyphoto.blogspot.com/

    ردحذف

المدونة و التدوينات ، بلا حقوق فكرية ، باستثناء الأعمال الفنية و الموسيقات فهي ملكية خاصة لأصحابها.

  ©o7od!. Template by Dicas Blogger.

TOPO