١٤‏/٠٧‏/٢٠٠٧

مِن هناك... بالأعلى

حينما دق صديقي جرس الباب ، فتحت ، فقد كنت أتوقع مجيئه ، و لكنني لم أكن أعلم أن معه أحدا ، عرف صديقته نجلاء بي، كانت فتاة ممشوقة القوام ، حالك سواد شعرها ، متحررة الملبس ، و جميلة في اعتباري .

فتيات آڤينيون ، لـ بيكاسو

جلسنا في الدار ،و بدأت أطهو بعض طعام لثلاثتنا ، و لمن ربما يمر اليوم أيضا من أصدقاء ، و بدأت ببعض المشروبات على سبيل الضيافة ، و كان صديقي هذا لم أره من مدة طويلة منذ سفره للولايات المتحدة ، فأخذنا نتكلم بلا انقطاع - منتقلين ما بين حجرة المعيشة ، و المطبخ ، و الشرفة - عن كل شيء ، عننا كأشخاص مبدئيا ،ثم عن البلاد و أحوالها ، و أذكر أن نجلاء بالكاد كانت تتكلم ، أو تشارك ، و لو حتي في الطهو معي ، فقط كانت تراقبنا بأعين فضولية حتى بدأت أقلق ، سألتني إن كان هناك أي موسيقى لنسمعها ، أشرت لجهاز الاسطوانات و قلت لها أن تختار ما تشاء. عادت متضايقة تسألني لم لا يوجد عمرو دياب ، أو نانسي؟ تعجبت ، فقد كان لصديقي هذا ذوق شديد الخصوصية في الموسيقى نادرا ما كنت أنا حتى أهلا له . فعجبت من رفيقته التي ظلت تلح في السؤال عن موسيقى عابرة كهذه .

لم يبالي بها صديقي الذي أكمل كلامه عن مشروع عمل احتك فيه بالاخوان المسلمين ، و هي لا زالت في واد ثان ،فذهبت أنا و شغلت فيروز، فهدأت هي قليلا. و أخذت تشرب البيرة (لا زلنا نهارا كنا) في هدوء أقرب للتوحد.

كنت قد قرأت مقال ما في صحيفة و أعجبني ، ناقشت صديقي في صدده ، و قرأنا سطورا منه.. نظرت لي و قالت : ممكن تفهمني هو قصده إيه بالمقال ده؟
أخذت ابسط لها ما قرأناه ، و لكنها ما زالت لا تدرك شيئا.
عما قليل مر بعض أحباء ، و أصدقاء ، و كانت الفتاة بالكاد تدخل في أي حوار ، ولكنها كانت تسأل الناس أسئلة شخصية غريبة ، فأثارت حفيظة البعض، فسألت صديقي هذا : هي مين دي ؟
قال: يا احمد ، تفتكر أنا حاجيبلك البيت واحدة رخيصة؟ لأ طبعا!
قلت: مش قصدي ، بس يعني أنا حاسسها مش واخدة ع الناس ، و بتلخبط شوية..
قال: سيبها! بس ما تخليهاش تشرب تاني – بحدته ووثوقه المعتاد مما يقول -.

مر اليوم ، و لا أنكر أنها كانت مثالا لتندر الاصدقاء و الصديقات ، لأسلوبها غير المعتاد في التعبير ، و جهلها المدقع لأي أمر في العالم. و لا أنكر أيضا أن الفتيات قلن عنها نكتة أو اثنتين من خلف ظهرها. خصوصا بعدما بدأت في الابتعاد عن عالم الوعي قليلا.

في اليوم التالي قابلت صديقي على القهوة ، و أول ما قاله: طبعا عاوز تعرف مين نجلاء!
و حكى لي قصة شديدة الميلودرامية: “ نعم يا أحمد ، كما توقعت في سرك ، الفتاة عاهرة ، تعمل في الدعارة لكسب قوت يومها ، كنت قد تعرفت عليها منذ سنوات ثلاث في هذا الإطار ، كنا نتضاجع مقابل المال. “
- ثم ..... ؟ ، سألته.

قال أنهما بعد هذا التاريخ انقطعت بهما السبل لوقت ما ، ثم عادا يلتقيان خارج إطار الفراش ، ليحتسيا قهوة أو ما شابه ، و هكذا تعرف عليها خارج منظومة استخدامها جسديا ، و أصبحا شبه أصدقاء و توقف الجنس تماما.

الفتاة أباها عامل على المعاش من شبرا الخيمة ، و له من البنات خمس ، و هي سادستهم و إن لم تكن الكبرى ، وولد واحد أصغر. و كل معاش الأب يتجاوز المائتي جنيه بالكاد، و بالطبع يعيشون في فقر مدقع .
بدأت في البغاء منذ ٥ سنوات ، و هو عمل مربح جدا حسبما علمت لفتاة جميلة ، و تعرف كيف تتأنق، و امتنعت عن الجامعة، و لكنها قامت بالانفاق علي الخمس فتيات ليكملن تعليمهن الجامعي ، و الآن لم يتبق سوى الولد الذي سيتخرج العام القادم.
و حدث أن أغرمت بشخص ما و تزوجته سريعا ، و حينها قررت هجر حياة البغاء ، و لكنها بعد عام اكتشفت أنه يراودها لتعود و تعمل في البغاء بعدما انقطع مصدر دخله ، فطلبت الطلاق ، فقد امتهنت ذلك من قبل بإرادتها ، و ليس قسرا.
و الآن هي مطلقة ، تريد أن تعيد تسجيل نفسها في الجامعة ، و هجرت المهنة منذ سنة تقريبا.

سألته مشاكسا (و فضولا أيضا) عن كيف كانت في الفراش؟ قال أنه لم يشاهد مثيل لها. و سرح قليلا...
و لكنه سرعان ما ألقى بماء بارد على حينما قال ( و هذه هي فحوى التدوينة بالمناسبة) : البنت كانت بتصرخ من السعادة و احنا مروحين ، مش مصدقة إنها قابلت ناس كويسين كدة( الكلام من لسانها) و انها ما بتلاقيش ناس تسمعها و تتكلم معاها و تفَهّمها حاجات كده من غير غرض تاني.

أصبت حينها في مقتل ، فالفتاة لم ننفك نتضاحك بشأنها – و إن كنت أقلهم – و خاصة بعد رحيلهما.
اتصلت تليفونيا بصديقة كانت حاضرة ، أخبرتها ما عرفت عن الفتاة و أنها قالت عنا ما قالت وكيف سعدت بلقيانا، فشعرت هي أيضا بخجل شديد، و قالت أنني يجب علي إعلام نجلاء" إننا مش كويسين كده زي ما هي فاكرة خالص" .

مرت أسابع و طلبت من صديقي أن يدعو نجلاء و يأتيا لبيتي في عزومة غداء عادية ، و قررت التعرف أكثر علي الفتاة ، و علمت أنها تحب شخص ما، و لكنه شاب محافظ فيما يبدو ، و أنها "حصلت ظروف خلتها مش بنت" – هكذا قالت – و أن لها تاريخ لن يعجبه بشكل أكيد ، و لا تعرف كيف تواجهه بذلك قبل الزواج. فهي لا تريد خداعه بشأن ماضيها.
و تحدثنا عن أشياء تافهة كثيرة ، و مسامرات حياتية يومية معتادة . و لكنني لم أستسغ جهلها المدقع بأي شيء له أية صلة بالكتابة أو الفن ، فهي حتى لا تقرأ الصحف فيما يبدو ، و زاد الطين بلة حينما وقفت أمام لوحة معلقة مهداة لي من صديق تشكيلي ، فسألتني أسوأ سؤال ممكن: “ هي اللوحة دي بتعبر عن إيه؟"
و طبعا حاولت أن أشرح ، فاكتشفت أنني أنا نفسي لا أعرف!
سألتها : نجلا .. إنتي ما يتقريش؟ عمرك ما خدتي كتاب و قريتيه؟
و لأول مرة ترد بنوع من الحدة: كتب ايه بس يا عم؟! احنا في بيتنا مافيش وقت للكلام ده ، لو أنا موجودة في البيت لازم أساعد في مليون حاجة ، و حتى كمان لو كان فيه وقت، فمافيش مكان أقرا فيه... ما فيش حتة ليا في البيت ، تقوللي أقرا؟ و أقرا عشان إيه أصلا؟ حيحصللي إيه يعني.....؟

لم أرُد لوهلة.
لم أشعر من قبل بأنني في عالم فوقي خاص بي قبل هذه اللحظة ...
لم أشعر كم كنت بعيد عن الأرض.
و لا أملك سوى شكر نجلاء على إظهار سوءاتنا بهذه السرعة.
و ليس في يدي سوى حقيقة ما أنا عليه ، و رغبتي في تغييري...
بل و رغبتي في نزع اللوحة التي اشتركت أنا و نجلاء في عدم فهمها. ـ



ـ"فن، حياة، و أشياء أخرى "
لـ بريت وايتلي


هناك ١٢ تعليقًا:

  1. ظريفة القصة بس طبعاً نجلاء عندها حق القراءة والفنون تأتى بعد إشباع الرغبات الأساسية الأكل والسكن واللبس والتعليم والدش والنوكيا
    n70

    ردحذف
  2. تأثرت جدا وانزعجت ..
    احيانا بالفعل نكون في عالم مغلق فوقي جدا ولا نشعر باحد ولا بشيء ...
    يوجعني جدا ان البعض يحرم حتى من نعمة الاختيار .. تقرير المصير ..
    اسوأ شيء أن تكون حياتك سؤال طويل صعب جدا .. والاجابة مفيهاش اختيارات

    ردحذف
  3. شوف في نقاط محددة ابدأ بذكر الله والسلام على نبيه الامى الامين واقول

    أولاً: اللوحة جميلة، ومناسبة كمان لجو الانتخة عندك في البيت، لكن لو عايز تتخلى عنها فشقتى المتواضعة بترحب بيها
    :-)

    ثانيا: المشكلة الحقيقة أنك بتشوف نفسك فوق وفيه ناس تحت ، أنا بعتقد ان الحياة مش كدا مش أدوار وطبقات فوق بعضها، بل شوارع أفقية وكل شارع بيختلف عن الثانى، وكل واحد على حسب ظروفه وتركيبته بيمشي في الشارع اللى يناسبه او اللى الظروف بتجبره انه يختاره

    ثالثا: الأوسخ من ان الانسان مش يكون عنده اختيارات وتبقي في ظروف خارجيه هى اللى بتجبره دايما، ان الانسان يكون غير قادر انه يمشي في الشوارع الثانية... يعنى مثلا أنه يكون مش قادر يسمع عمرو دياب... دى مأساة حقيقة، لأنه رغم فرص الاختيار اللى بتكون متاحة أمامه عمل لنفسه سجن وحبس نفسه جواه

    رابعا: أنا نزلت ألبوم عمرو دياب ، وكالعادة حبيت شغله وعجبنى عمرو هيفضل هوه الهضبة فعلا

    خامساً:بصراحة فيه لهجة في التدوينة فكرتنى بكلام بلهجة المستشرقين وهم بيتكلموا عن عجائب المجتمع المصري، حتى لما عرفت ان البنت كان مبسوطة من القعدة حسيت بالذنب وحاولت تكون لطيف معاها في المرة الثانية وكأنك بتتعامل مع شخص معاق تنظر له بشفقة وعطف

    سادساً:وضح في اطار ما لا يقل عن خمسة أسطر المقصود بعبارة
    " رغبتي في تغييري..."
    ؟

    سابعاً: لما انت شاب حلوة كدا وبتطبخ للى رايح واللى جاى ما تبقي تأكلنى احنا كمان يا عم... واللى لازم احكى ليك مأساة امى اللى في الجيش وابوى العيان واخواتى السبعة اللى بربيهم
    :-)

    ردحذف
  4. elharam

    تصدق بإيه؟ هي فعلا معاها نوكيا من الحاجات الغريبة دي... إنت الظاهر عليك شفاف
    مش انت اللي بلغت يا هرم؟
    :)
    ـــــــــــــــــــــــــــــ

    bluestone
    على رأيك
    نفسي أقول للناس اللي بتكتب روايات و بتهرينا أفلام: إختيار إيه؟ أنا نص حياتي ما اخترتهاش ، مفروضة علي فرضا ، و كل اللي باعمله إني "بحاول" أغيرها.. مصير إيه اللي أقرره؟ أنا باقول كدة و أنا عارف كمان إن حياتي أسهل من حياة ناس كثير يا بلو
    ما بالك بالناس إللي ما عندهاش غير فعلا إجابة واحدة؟

    ــــــــــــــــ
    بيسو

    ١-لأ اللوحة فقيعة ، أنا سايبها مجاملة و الله
    ٢
    - لا يا عم ما باشوفش نفسي فوق و لا حاجة ، ع الأقل ماديا و اجتماعيا ، فمانيش غني قوي ، و باركب ميكروباص ، و لو عربية فانت عارف حالتها
    بس ما ننكرش ان المجتمع طبقي فعلا ، و صراع الطبقات حتمي و انت عارف ده كويس ، و لا إيه؟

    ٣- و الله باسمع عمرو دياب ، أنا قصدي ان الحاجات اللي بتستهويني بعيدة عن الناس ، والشيء اللي مهم عندي جدا و مسألة حياة أو موت ، بيكون هزار عند آخرين ، عشان كده أنا في مكان تاني.

    ٤- نزلت الشريط إيه بس!!! ده مالوش علاقة!!! و بعدين يعني إيه هضبة؟

    ٥- الذنب اللي حسيت بيه إن
    احنا(الموجودين ساعتها) كنا سافلين جدا بشأنها ، لكن هي ما خديتش بالها ، و حبيتنا جدا ، بينما كانت هزارة بالنسبة لناس كثير ، عشان كده حسيت بالذنب.

    ٦- أتغير : يعني أتعلم إن أولوياتي مش هي كل الدنيا ، و العالم مليان شوارع تانيا ، و كوني مرتاح في الشارع بتاعي فدي مشكلة كبيرة ، لإني باخسر كثير إنسانيا و معرفيا و روحيا ، و النتاج إن أنا كنت بابص لنفسي بشفقة و عطف مش للبنت (كدة ٥ اسطر؟) ـ

    ٧- أنا عزمتك على ماهو أهم كثير من الأكل ، و انت مصدّر عبد الحميد ، ماشي يا عم ، اللي إداك يدينا... إيه أخبارك الثلاثاء الموافق ١٧ من تموز؟ شغال؟ حأكلك أكل صيني .. من باب الاستشراق

    ردحذف
  5. غير معرف٧/١٥/٢٠٠٧

    a very nice post, but I have an irrelated question, why did u stop translating Oscar book? I am waiting for it.. please continue.
    thanx

    amira

    ردحذف
  6. احنا مجتمع مريض بالنفاق ... كل واحد فينا محتاج يثبت انه مميز على حساب الآخر ... مش قادرين نواجه اننا منحطين جماعة ... وصلنا لاسفل السافلين و بنطنطط على بعض حلاوة روح
    مش حتقوم لنا قومة الا لما نواجه مرضنا
    نجلاء غالبا اكثر صدقا من كثير منا لأنها نزلت للقاع و بتحاول تطلع بشويش عكس الأغلبية اللى مش معترفة انها وصلت للقاع جماعة

    ردحذف
  7. أنا احيانا اشعر انني اعيش في المريخ و مع ناس ليس لديهم أي عائق مادي مثل نجلاء

    ردحذف
  8. Amira.

    Well..
    initially I'm NOT the translator. he's Mr. Mohamed Saleh, the known Piano player , and i just pupuleshed it on this blog in order to share it with as much people as i can, but to answer your question let me tell you that I've stoped pupleshing it due to some orders from the Arabic version Publisher, YES ! they are going to publish it finally on egyptian market.. the same translation we had here... and all.
    and if you really interested you can attend to the theatrical version at 19/12/2007 (which is my birthday by the way) . to see it fully performed on the stage... i'll supply you with further information whenever it's available... but sorry for this cut-off... it was really not my decision...

    p.s. WHY do we use English here?!


    ـــــــــــــــــــ
    rose...

    غريبة إنك تقولي كدة ، خاصة إنك كنتي أكثر حد بيسمعها و قضى معاها وقت ، غالبا انطباعها الكويس "عننا" ما هو إلا انطباعها عنك انتي...
    :)
    ــــــــــــــــــــــ

    إيمان

    أمال ما بالك بقى بواحدة زي نجلاء؟
    حاجة مؤسفة فعلا يا دكترة

    ردحذف
  9. غير معرف٧/١٨/٢٠٠٧

    Thank you for answering me, yes I would love to see the performance, please announce it on your blog. I use English, cuz I dont write good Arabic.. bas ha7awel ya3ni next time to comment in Arabic.

    Regards.

    Amira

    ردحذف
  10. Amira..
    it's ok ya ostaza.. i was just wondering...
    sure thing.. i'll announce the performance here... we still don't know which theater will hold it yet... still a few months to go..
    well...
    If you are "The Amira" I used to know.. please Email me..
    thanks.

    ردحذف
  11. دي اسمها الطبقية الثقافية ، إنك تتريق على واحد راكب مرسيدس لأنه مشغل نانسي عجرم ، و لو سألته آخر كتاب قريته ايه يقلك في ثقة ، شيكاغو
    شوف بقى لما تبقى شرموطة معتزلة و عمرها ما قريت حاجه ، مش عارف بس يمكن الشعور الجماعي ده جالكم عشان مافيش احتكاك بالناس البسيطة دي ، الناس النمطية يعني
    أنا زمان كنت باتريق عليهم ، زي ما باتريق على "المثقفين" المتعنتين في الثقافة ، اللي تعجبه مزيكا مختلفة عشان يتقال عليه مختلف ، و بعدين قلت خلاص بقى ، ما يولع ده على ده
    إنما ماتنكرش ان القراءه للجميع هاتخلي مصر أحسن و أحسن

    ردحذف
  12. غير معرف١٢/١٨/٢٠٠٧

    ســــــــــــــلام

    عيد ميلاد سعيد

    دخلت صدفه و قريت ان عيد ميلادك بكره فقلت أعمل حد كويس هههههه و نخلي العيد عيدين , ابسط يا عمي التهنئه جايه من تــــــــــــونس , بس على فكره حلوه الخواطر اللي في الموضوع و سيبك من التعليقات اللي مش هيه

    صديق متونس

    ردحذف

المدونة و التدوينات ، بلا حقوق فكرية ، باستثناء الأعمال الفنية و الموسيقات فهي ملكية خاصة لأصحابها.

  ©o7od!. Template by Dicas Blogger.

TOPO