معرفة تاجر للأنتيكات هي تجربة شديدة الثراء ، فهؤلاء القوم يمرون بكم من القصص و الحكايات لم أتصور قدره حتى صادقت أحدهم ، و هو شاب مثقف ، هاديء الطباع ، احترف مهنته هذه بسبب عشقه اللا نهائي للقصص و و غريب الروايات التي يظل يجمعها بلا كلل ، فالأمر بالنسبة له فني قصصي بحت ، و ليس وسيلة للتكسب في المقام الأول ، فهو ينفق أموالا لا نهائية في شراء الأوراق و المكاتبات القديمة ، و لا يبيعها أبدا ، و يعتبرها كنزا ، و الحقيقة هي كذلك.
كثيرا ما كنت أراه يسير في وسط المدينة حاملا حقيبته ، فلا أنفك أسأله فتحها ، فأجد غريب الأشياء ، فمن رسالة من الملك فاروق لصديق له ، لمكاتبات تاجر يهودي في المنيا ، لفوتوغرافيا أصلية لڤان ليو لفتيات عاريات ، و آخرها كتاب من الثلاثينات ترجمه هاو بخط اليد عن الفرنسية معنون بـ "كتاب فنون النيك".
فتاة مكبلة - أرمان "الأب" - ١٩٤٥
يعيش صديقي هذا في بيت لأسرة يونانية في وسط القاهرة ، أعتبر شقته من أجمل ما وطأت ، ليس لأنها تحوي صورة عملاقة لأم كلثوم وهي طفلة ، و لا لأثاثها العتيق النادر الذي قلما شاهدته مجتمعا ، و لكن لتصميمها الرائع ذي الطابقين ، و لأنها تحوي العديد من التفصيلات التي نجلس لساعات متأملينها و نفرزها و نتناقش بصددها.
مادلين - راقصة تعري من إيران -ڤان ليو - القاهرة ١٩٦١
في زيارتي الأخيرة له ، أخبرني عن وفاة معماري أرمني شهير في ڤيلا بالزمالك ، كان الرجل مشلولا في آخر سنوات حياته ، و لم يكن له من أسرة تسأل عنه أو عن أحواله ، ذلك بعد أن كان واحد من أهم المعماريين المصريين في الأربعينات ، و ذكر لي أن الرجل كان مشلولا في أواخر حياته ، لا يتحرك ، و استجرأ اللصوص على اقتحام بيته عدة مرات ، و حملوا اللوحات و الكتب و الأثاث الخفيف ، و هو يشاهدهم من على كرسيه المدولب ، كان قبل موته يشاهد حياته تسرق ،و اللصوص يمرون من أمامه و من خلفه يحملون أشيائه ، و لا يستطيع الحراك.
مرة أخرى كان في بيت في قصر العيني ، عاش فيه رجل عجوز ، عرف عن طريق مذكراته أن العجوز هذا كان قد قاطعه جميع أهله منذ الثمانينات ، لمعاقرته الخمر و مصاحبته النساء ، و ظل الرجل يعيش حياة لهو و سرور إلي أن سقط منذ عدة أشهر من على سلم منزله ، فنقله البواب لمستشفى القصر العيني ، و مات هناك بعد أربعة أشهر بلا زيارة واحدة من مخلوق.
بعد وفاته تهافت الأولاد و الأقارب لشقته ، ليجدوا ما يساوي الملايين من لوحات و أعمال فنية ظل يجمعها ، و نفائس من الخط العربي ، و كتابات قرآنية بديعة ، فضلا عن مكتبة رباعية اللغات تحتوي على كتب لا تقدر بمال.
و ضمن أوراقه عثر صديقي على مكاتبات كاملة بينه و بين حبيبته في شبابه ، و تابع قصة حدثت خلال سنوات عديدة ، بدأت بحب الفتاة الرهيب له ، حتى تركها ، و خطابات تمتد لصفحات ترجوه أن يعود ، أحدهم لا يحمل سوى كلمة "بحبك" تكررها على مدى أربع صفحات.
پورتريه لمجهولة - أرمان"الأب" - ١٩٤٥
و حدث بينما كنت ألهو في بيت صديقي هذا أن وجدت كارت عمل لطلعت حرب باشا ، يحمل توصية بالفرنسية بخطه الأنيق ، و عُرِّف طلعت حرب في الكارت بأنه "نائب رئيس بنك مصر و أحد مؤسسيه" مما يعيد فتح مسألة أن طلعت حرب لم يبني وحده اقتصاد مصر كما رووا لنا في القصص ، و لكن طمس الله أسماء شركاء عدة لأسباب تتعلق بالديانة أو الأصل.
من جملة ما عثر عليه مرة في قبو قديم مئات الاسطوانات القديمة ، بعضها يعود لبدايات القرن العشرين ، و منها المكتوب عليه بخط اليد ، و الغريب أنه وجد اسطوانات صدرت على سبيل التجربة لأم كلثوم و آخرين ، لم تطرح تجاريا أبدا .
من جملة ما شاهدنا كان مجموعة مما يزيد عن الألف صورة لاسرة مصرية يهودية ، يبدو أنهم تركوهها في أوج الرحيل ، تؤرخ لحياتهم بشكل بديع ، من دراسة لاحتفالات ، لزواج ، و من غريب ما أخبرني صديقي أنه في أحد الأيام ، وجد في محل للعاديات في هدى شعراوي ، صورة له هو شخصيا من الثمانينات ، مبروزة في إطار أنيق ، و حتى الان لم يعلم من الذي وضع صورته في إطار كهذا ، و كيف وصلت لهذا التاجر. و لكنه اشتراها.
الآنسة نادية عبد الواحد - ڤان ليو - ١٩٥٩
أظن أن نادية - ان لم أكن مخطئا - هي نفس نادية عبد الواحد بطلة مصر في السباحة في الستينات و الحاصلة على ثلاث ميداليات
في دورة دمشق ،و تم منعها من دخول نادي هليوپوليس بسبب الديانة ، هاجرت لكندا مع اسرتها فيم أعتقد.ـ
تظل كتاباتنا و صغار أوراقنا تحكي تاريخ آخر غير مكتوب لهذه المدينة ، ربما تقوم المدونات بدور مشابه ، و لكنها - لوضعها الانفتاحي - قد لا تضم في سطورها حقائق عدة ، قد نخفي أسماء ، حقائق ، نغير في تواريخ و قصص ، بعكس الحفحات المحبرة الصفراء الموجودة في قبو في الاسكندرية .أو في خلفية صورة موقعة بالفرنسية ، أو وسط دفاتر من رحلوا في هدوء، تاركييننا في صخبنا اليومي هذا. ـ
پورتريه لمجهولة - ألبان - بورسعيد /١٩٤٥