لا أجد مفراً من أن أجلس و أتأمل نقاط الخلل التي أدت بالوضع السياسي/الإجتماعي الراهن إلى هذا الحال، و كثيرا ما أربطه بالمنحى ( المحافظ) الذي تحولت إليه حياتنا العامة خلال العشر سنوات الماضية، و لما كنت أرى أن الفن و الثقافة يمثلان الجبهة الأخرى ، حيث أنها جبهة الرأي و المنطق في مواجهة جبهة تتفشى من الأصولية و الرجعية ،فانني أرصدهنا كيف تم احتواء هذه الأولى إلى الدرجة التي جعلت - و يمكنني أن أقول هذا بكل ثقة - العديد من مفردات الفن والثقافة يتم تحريكهم بواعز ديني بل وأصبح الكثيرمن رموز الفنانين و المثقفين (إن جاز التعبير) يتحركون وفقا لنوازع أخرى أبعد ما تكون عن العقل و المنطق، و قد ساعدني هذا على البدأ في ادراك التحول الهائل الذي نمر به،و كيف وصلت القدرة على الحكم عند الكثيرين إلى درجة كبيرة من التشتيت....
و لما كنت أعمل في الماكينة الفنية منذ عدة سنوات و هو الأمر الذي جعلني مطلعا على كواليس السينما و الغناء و ما ملكت ايمانهم، فسمحت لنفسي بتسريب بعض هذه التأملات....
1- أبدأ بقصة حدثت لي.. فقد كنت أعمل مع أحد المخرجين الذين أكن لهم تقديرا خاصا و إيمانا بموهبتهم، و يبدوا أن الرجل كان يبادلني نفس الشعور،مما حدى به إلى أن سافر لحضور أحد المهرجانات و ترك لي متابعة العمل في أحد الفيديو كليبات التي يخرجها، و طلب مني تسليمه بعد الانتهاء منه إلى القناة الفضائية التي أنتجته، المهم، اثناء المونتاج، كان المونتير يترك العمل ليغيب أكثر من نصف ساعة لأداء الصلاة، طبعا لم اعترض، ثم بدأفي التبليغ و الدعوة طالبا مني أن أقوم للصلاة و ان "هوّ ده اللي باقيلي" أخبرته ببجاحة - أعترف - أن يركز في عمله فقط، أكمل العمل معي على مضض، ثم فوجئت به يكثر من وضع الشوتات الساخنة للمؤخرات و الأثداء، فإذا بمشهد الرقصة في الأغنية يتحول لعمل بورنوجرافي بحت، و لما كنت لا أطيق استخدام الفتيات على هذا النحو - حتى و لو برغبتهن - كما أنني لن أتاجر بمشاعر المراهقين المصريين الذين يطحنهم الكبت، فاني اعترضت على هذا الجزء شكلا و مضمونا، و لم يبالي، و استمربقية اليوم في التنقل ما بين الصلوات الخمس، و المشهد الساخن بازدواجية مدهشة،فلوَّحت بالسلطة المطلقة على العمل التي أملكها، و انني لن أسلِّم الكليب بهذا الشكل أبدا، فاستشارمديرو الاستديو الذين كانوا في صفه تماما متحججين بأن "هوّ ده اللي بيبيع" و لكني ثبت على موقفي إلى أن حذفت المشهد الخليع، الإشكالية هنا تكمن في أن هذا الاستديو يبدأ يومه بالقرآن الكريم - لا بد أن يدار شريط لمدة ساعة كل صباح - في حين أن هذا الاستديو قدّم العديد من الكليبات منها ما قد رفضته الرقابة في العديد من الفضائيات و هم أصحاب الكليب الذي يعد الأكثر إثارة في استفتاء قناة ميلودي.
2- البعد الديني أصبح له دخل كبير في صناعة معظم الأفلام، يمكنني أن أعد على أصابع اليد عدد النجوم (ممثلون) الذين لا يقطعون التصوير من أجل الصلاة،و أتذكر بسهولة العديد من السيناريوهات التي عدلت لأسباب أخلاقية، و حذف منها مشاهد سُكر أو "مياصة"على حد تعبير سمعته من أحد نجوم السينما.علما بانني حسبما تعلمت، فإنه يتم تعديل السيناريو وفقا لطبيعة الشخصية المقدمة أو سيرالأحداث في الفيلم، أو ظروف الإنتاج، و لكن ليس وفقا لصحيح الحديث أو فتاوى المشايخ، وبل و نجم آخر - هو رقم 1 الآن - يقرأ الفاتحة جماعة قبل البدأ في التصوير أو المونتاج أو الميكساج - على طريقة فرق الكورة - لست ضد الفاتحة بالطبع ، و لكنني ضد الازدواجية التي أدخلت الدين في كل تفصيلة في الحياة، و في نفس الوقت الذي يكرر نفس الممثل مشهدا له و هو مخمور في أغلب أفلامه بينما يقول للحاضرين ( ربنا يكفينا شرّها)...
3- أعلنت على الأقل 3 ممثلات أنهن "ما بيتباسوش" مهما كانت متطلبات السيناريو لأن واجبهن تجاه ربنا أهم.و بما أن المناخ السينمائي العام سيكفل لها أدوارا" مشروعة" ، فلن تغامر بالقبلة و تضيع منها الآخرة. بل و ان إحداهن - اتكلم عن نجمات الصف الأول - تدير شريطا دينيا بصوت عال ليسمعه موقع التصوير من عربة الملابس الخاصة بها.
4 - كنت في عيد ميلاد صديق لي يعمل في الديكور، و كان ضمن الحضور عدد من الممثلين (صف ثاني و يتحولون إلى الاول مؤخرا) كان منهم اثنان يشربان البيرة، طلب مني الصديق أن أصوره معهم، و بينما ألتقط الصورة فوجئت بأحدهما يسقط زجاجات البيرة من على الطاولة أمامه بحركة سريعة قبل أن ألتقط الصورة موبخاَ إياي على عدم تحذيره قبل التصوير" ...انت حتصورنا بنشرب يا عم انت؟!؟!" - و حتى الآن لا أعلم لماذا كان يشرب إن كان هذا الأمر يضايقه لهذا الحد، ام هو إمعانا في الإزدواجية و خلاص؟
5- قال نجم كبير لمؤلف "سهر الليالي" - لم أشاهد الواقعة لكن سمعتها من أحد الحضور - قال له :" مش حرام كده انكم تطلعوا النسوان عريانة في الفيلم؟" فما كان من المؤلف أن جاوب بذكاء " لعن الله الرجال المتشبهين بالنساء" في إشارة إلى الفيلم الأخير لهذا الممثل و الذي قام فيه بدور امراة، و الجدير بالذكر أن الفيلم لم يحقق النجاح المرجو، رغم إصرار هذا الممثل على وضع (كفوف و عيون و خمسة و خميسة) في كل أفيشات الفيلم في الشوارع لتقيه من الحسد، شاهدوا البوسترات مرة أخرى للتأكد.
6- بمناسبة الكفوف، أؤكد من خلال عملي أن العديد من المخرجين و كتاب السيناريو يستمرون في العمل ليس لأي سبب سوى أنهم "مُسعدين، و بيجيبو الرزق" على حد تعبير أحد المنتجين المعروفين، و يتكرر هذا الأمر مع أسماء عديدة رغم علم الجميع بضعفهم فنياَ.و العكس بالنسبة لممثلين تعثروا و تم اعتبار أن " نحسهم ما بيتفكِّش"... و أصبح تحكيم العقل، و دراسة السوق و الدعاية و خطط التسويق عامل ثانوي بجوار المسلمات الشعبية.
7- طلبت للعمل في إحدى المؤسسات الفنية الضخمة ، و بدونا على اتفاق في الانترفيو، فقد كنت من أفضل من لهم دراية بهذه الجزئية في مصر، و انجلى مدير المؤسسة في شرح تاريخهم الفني الحافل، و لما سألته عن أحد الأفلام إن كانوا قد شاركوا فيه ،أجاب في نفور " لا.. لا...لا... ده المخرج كان عاوزنا نعمل شكل كده يظهر في الفيلم كإنه ربّنا استغفر الله العظيم، مشيناه طبعا" فأجبت بلباقة : " والله هي وجهات نظر، الراجل ما كانش قاصدها كدة بيتهيألي" ارتبك المدير،و غير الموضوع . طبعا لم يتصلوا بي أبدا.
8- صديق لي مخرج شاب، أخرج فيلما قصيرا بتمويل خاص منه كلفه عشرات الآلاف، إلى درجة انه قد باع سيارته ليحقق انتاج هذا الفيلم، المهم، حاول أن يعرضه في مركز الساقية، - نسيت أن أذكر أن الفيلم يحوي مشهدا جنسيا (نظيفا) أي خال من الأعضاء - و لكن يبدوا أن هذا لم يشفع للفيلم لكي يعرض في الساقية، و طِلب و أكرر طِلب من المخرج أن يحذف هذا المشهد ليكون صالحا للعرض، بالطبع رفض، ثم سمعت من صديق مسرحي أن بعض الشباب المسرحيين يتلقو توجيهات بشأن عروضهم التي يتشرفوا بأن يعرضوها هناك، دهشت حينما علمت أن مكانا ثقافيا يدار بهذه الطريقة، و لكن زال هذا الاندهاش حينما علمت أن الساقية تقيم ندوات دينية لكبار الدعاة، و كأن الإسلام ينقصه منبرجديد لدرجة أن يدخل في مكان من المفترض أنه ثقافي/فني، أم أنه توضع الندوات هناك بطريقة السم في العسل؟ لست مع نظرية المؤامرة لكن الموضوع حقا مقلق.و يذهب البعض إلى أنهم يقومون بهذا لأسباب "تمويلية" و هو أمر أكثر إقلاقا.
9- لي أصدقاء من شباب التشكيليين، قاموا بعمل معرض مشترك في إحد المراكز الثقافية الأوروبية، و كانت بعض الأعمال المقدمة - زيت - تحوي بعض العري،و أوضح انها صور زيتية، من عدة مدارس فنية، و ليست شديدة البجاحة (ان جاز التعبير) فقام المركز بتوزيع الأعمال في الردهة و على جانب السلالم في كل الأدوار، و بالطبع نقلت الصور اياها إلى أعلى دور في المركز، تقريبا لا يستخدم لأنه منفذ للسطوح،ولا يحتوي على مصدر نورأو لمبة، مما أدى بالبعض إلى سحب أعمالهم. فإذا كان هذا حال مركز ثقافي لإحدى أكبر دول الاتحاد، فما بالك بالوضع لدينا.... و لكن يبدو أن الأمر عدوى...
10- شاركت في أحد الأفلام القصيرة، و بعد العرض الخاص أوقفتني فتاة محجبة عندما أخبروها أنني ضمن فريق العمل، علمت بعد ذلك أنها كاتبة، و دار حوار عبثي هذا جزء منه:
الفتاة: ..... انت عارف إيه أكثر حاجة ضايقتني؟
العبد لله:....
الفتاة:إن البطلة كانت بتشرب خمرة
العبد لله:و فيها إيه؟
الفتاة:(صدمة و سكوت ثم:) فيها إيه؟؟ إنتوا يا جماعة مالكم بالظبط؟ مش ده حرام برده ولا إيه؟
العبد لله: حرام طبعا... زي القتل و السرقة و النصب، و كلها حاجات بتطلع في الأفلام برده.
الفتاة: بس انتوا مش المفروض تظهروا الحاجات دي في الأفلام كإنها حاجات عادية! بقى بذمتك في بنت بتشرب؟!؟!
العبد لله:(صدمة و سكوت ثم:) أيوه
الفتاة:خلاص يبقى قِلّة... ما تقعدوش تطلعوهم لنا في الأفلام...
العبد لله:المخرج مش داعية إسلامي ، و لا بيعمل أفلام تعليمية،هو بيتكلم عن الحاجات اللي بتحصل حوالينا...( ثم بدأتُ في العصبية) و لعلمِك بقى.. بنات كتير بيشربوا و بيحششوا... و اقولك حاجة؟ ..في ناس ما بتصليش و مش مؤمنة بربنا أصلا!!!
الفتاة:في مصر؟؟؟
العبد لله: (ذهول)... فرصة سعيدة بعد إذنك.
و هنا أدركت أن الخلل عميق، و أن البعض منّا لا يرى الآخر، بل و حتى غير قادر على تصور فكرة و جود عناصر قد تختلف عنه.
أعلم انني قد أطلت، و لا زال لدي العديد في هذا الصدد ، لكنني آثرت ان أضع هذه النقاط لنتأمل سويا حال الثقافة قبل حكم الاخوان!
تدوينه هايلة فعلا
ردحذفو هنا اسمح لى ارجع للكلام اللى كنا اتكلمنا فيه قبل كدا عن الاخوان المسلمين
تفتكر بقي ان الاخوان مسئولين عن اى خراء من اللى فوق دا؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
تفتكر مثلاً في حد من الاخوان عنده الازدواجية الموجودة عند اى نموذج من المثقفين و الفنانيين اللى انت اتكلمت عنهم قبل كد؟؟؟؟؟؟
هى دى الفكرة
النظام
العيب مش في الحزب الوطنى و لا في الاخوان و لا نعمان جمعهو لا حتى في محمد هنيدى
العيب في النظام
طبعا معاك حق... السؤال هو: إذا كان هو ده الحال من غير إخوان ... فما بالك بما بعد ذلك؟؟؟
ردحذفبس
كان فيه فعلا حد زمان يا مخالف قال ان أفضل استثمار للحكومة عندنا يكون إنشاء مركز أبحاث ينظر في أسباب الفساد في هذا الشعب عدو نفسه. ومتهيألي التركيبة المزدوجة( من جهةالفساد السياسي/ الاجتماعي ومن جهة أخرى المطلقات الدينية/ الانغلاق الثقافي)
ردحذفبتشكل مزيج محتاج تحليل تاريخي/ إثني/ نفسي لأننا ماعندناش خط واحد مستقيم نعرف نمشي وراه: ابتدع المماليك البذل والبرطلة، آه، بس برضه سمعة الأمانة والأخلاق ارتبطت غالبا في مصر برضه بذوي الأصول الأجنبية من الأرمن واليونانيين وغيرهم، ثم في عصور، الأقباط، أي أنه مثلا تتركز الأخلاق، مع الوعي بارتباط المصلحة الشخصية بالمصلحة العامة، في الأقليات، التي بشكل أو بآخر تشعر بمحاصرتها من قبل الجموع اللي ماشية في الشارع...
طيب من أين تأتي هذه الجموع؟
الجموع التي تعترف بفساد النظام وتخترع نظريات تدل على قدرة على النقد والمألسة لا حدود لها، وفي الوقت ذاته يحل سواق أتوبيس من أفرادها دم نجيب محفوظ...آه والله، ولغاية من شهر...، وأسمى أحلام أي منهم أن يكون عسكري على زميله لأنه أكيد أذكي وأتقى وأحكم وأولى بالجنة منه...
يعني يا سيد إبليس، ماشي الإعلام زفت والنظام زفت لكن فيه حاجة متأصلة على مر العصور، أبحث لها عن حل ولا أجد.
لا النظام مش مقصود بيه الحكومة
ردحذفو لا الريس
النظام هو سلسلة العلاقات الخالدة الاجتماعية و الاقتصادية التى تحكم دائما الذين يعيشون على هذا البلد
هذا ما اقصده بالنظام
آه، تعني حضرتك النظام من المنطلق الشبابي الروش، أي "اللي حاصل"
ردحذفأنا إذا أوافقك الرأي تماما، المشكلة في النظام، وزياد رحباني اقترح من زمان ، "بما إنه العلة في النظام، غير له النظام"، لكن مع الأسف الأمر ليس بهذه السهولة.
نحتاج تكنيكا يا شباب للنظر في المسألة والإفلات من اللبس القائم والحقائق غير التاريخية . عندكم إقتراحات؟
ممكن أصلا نعمل مشروع إسمه "إيه النظام؟" ونفتح باب التبرعات، وهي بداية موفقة لأي مشروع وأهو نطلع بحاجة لو فشل زي غيره (وسلامات يا فَنض)
الاقتراح جاد، ما عدا إسم المشروع ومسألة الفنض: حد عنده فكرة بناءة، أو مش هدّامة ؟