كلما اعترى الأيام فتورها المعتاد ، أجد نفسي أقرأ روايات مصورة ، فهناك شيء ما بصددها يجعلها غير قابلة للمقاومة ، تتابع الصور و النصوص يشكل لي اثارة لاحدود لها، و بالكاد أذكر انني تركت إحداها في المنتصف ، مهما كانت رديئة ، و الحقيقة الكثير منها رديء في تصوري ، و إن كان يحصل على شهرة واسعة.
لفظة "رواية مصورة" Graphic Novel ، هي لفظة مستحدثة ، و الكثير من كتاب و رسامين الكوميكس يرفضون المسمى تماما ، و لكن بعض الروايات المصورة طبقت شهرتها الآفاق مثل :WATCHMEN تلك التي أظنها تستحق كل التقدير.
يقول ألان مور مؤلف WATCHMEN ، و القاص الكلاسيكي : "تلك لفظة تسويقية لم اتعاطف معها أبدا ، المصطلح "كوميكس" أجده الأفضل بالنسبة لي ، الأزمة أن كلمة " Graphic Novel" أضحت تعني كوميكس غالية السعر، لذا فستجد أمثال "دي سي كوميكس" ، أو "مارڤل كوميكس" من مؤسسات يقومون بلصق أية ستة أعداد من أي هراء عديم القيمة تصادف أنهم قد نشروه ، ثم يضعون له غلافا لامعا ، و يطلقون عليها اسم (شي - هلك ، رواية مصورة)..."
بغض النظر عن المسمى ، إلا أنني قد قرأت الكثير خلال الاسبوعين الماضيين ، سواء في صورة كتب احتفظ بها ، أو في صورة رقمية محملة من الانترنت و مقرصنة في الغالب للأسف.
و قد وجدت ثلاثة روايات و اعتبرتهم بمثابة أحداث لا يمكن التغاضي عنها بسهولة سأختصر الحديث عنهم هنا:
كبرياء بغداد ، الحقيقة أعترف أنها لم تعجبني كثيرا رغم الجوائز، لكني أراها رواية مصورة مهمة ، و ذكية (أحيانا) ، هي انتاج عام ٢٠٠٦ ، كُتب في مفتتحها أنها بنيت حول حدث واقعي صار اثناء دخول الامريكان لبغداد ، قفد روى خبر صغير يوما أن القوات الأمريكية قامت باطلاق الرصاص على أربعة من الأسود الذين هربوا من حديقة الحيوان أثناء قصف بغداد ، الرواية تتصور يوم الهروب لهؤلاء الأسود ، و ما تعرضوا له حتى تم اطلاق الرصاص عليهم .
القصة بكاملها - ١٣٠ صفحة - لا يظهر فيها أي من بني البشر ، فقط نسمع تعليقاتهم او حديثهم على خلفية قصة الحيوانات المتكلمة ، الذين لا يعرفونهم كثيرا و يطلقون عليهم "الحراس" بدلا من بني البشر، و هذا أمر أظنه قد يستفز البعض ، خاصة أن لكل الحيوانات في القصة أسماء عربية مثل علي ، صفا ، و رشيد ،أنا لا أكترث ، ولكن ما ضايقني حقا هو التصوير المباشر لوضع الطوائف المتناحرة عن طريق عكسه على واقع الحديقة ثم المدينة/الغابة التي تجد الحيوانات نفسها فيها بعد تحررها ، و كيف لا يستطيعون غض الطرف عن علاقة الكره الموروثة بين الفصائل كالاسود و الغزلان و القردة . و لكن تم التعاطي مع فكرة "التحرير" بذكاء شديد ، و استحضارها للمساءلة طوال النص.
السرد بالقصة يدور بشكل تقليدي جدا ، و يستمر بشكل خَطي مع الأحداث ، و بالكاد ما نجد حدثا موازيا ، او استحضار لفكرة او تخيل ما ، باستثناء بعض مشاهد التذكر النمطية المعتادة ، و لكن ظل إيقاعها متسارع ، و حوارها متزن غير مستزاد.
الرواية تبدو مرسومة و ملونة رقميا ، كشأن الكثير من قصص الحركة في هذا العصر ، أظنه من الأفضل للمراهق قراءة رواية مصورة قريبة للألوان التي اعتادها في العاب الڤيديو و ما عداها ، و لكن هذا لا يمنع أن لهذه المدرسة باع في تطوير الكوميكس بشكل رهيب.
كنت قد كتبت من قبل عن كريج طومسون ، مؤلف الرواية المصورة البديعة Blankets ، و هذه الرواية Goodbye Chunky Rice ، هي العمل السابق لها.
القصة أعتبرها واحدة من افضل الروايات المصورة التي قرأتها قاطبة ، فهي تتمحور حول السلحفاة (شنكي) الذي يترك صديقه الفأر (الذي يظهر كحبيب أو عشيق أحيانا) ، ليودع إياه منطلقا لاستكشاف العالم . و الغريب أنه بالرغم من كونها أول أعمال المؤلف إلا أنها أكثر أعماله حداثة و خروج عن المألوف في اشكال الحكي و ربما في الرسم أيضا عن تاليتها.
تنتشر في القصة شخصيات عدة ، كلها مشوهة أو منقوصة بشكل ما ، و شديدة التوحد ، و كعادة مؤلفي الكوميكس النبلاء ، لم يخجل كريج من رسم شخصيات و أفكار قد يظنها المجتمع منفرة كثيرا. فمثلا واحدة من الشخصيات المحورية هما توأمتان ملتصقتان على سطح المركب ، و يتشاركان الرئة و الذراعان و جزء من الرأس ، و لكنهما لا تجِدا إجابة لسؤال شنكي : هل يمكن لأي منكن النفاذ إلى حلم الأخرى؟
أظن المؤلف قد قام بأشكال حكي و رسم غاية في الذكاء و الألمعية ، خاصة أن القصة تسري بين عدة محاور في المكان و الزمان ، فضلا عن تعدد الشخصيات حتى تصبحا السلحفاة و الفأر شخصيات شبه هامشية أحيانا.
و كانت الصفحة الواحدة في الكتاب بمثابة عالم كامل من التفاصيل و الصور و المربعات التي تروي القصة بشكل يبدو عفويا لأقصى درجة ، و أحيانا كان يستخدم التقطيع الكلاسيكي لمربعات الكوميكس كأداة جمالية و ليس أكثر ، و كأنه يرفض التعامل مع كل مربع كوحدة خاصة كما درج الرسامون و اعتادوا.
مؤلف شنكي رايس وراسمها في نفس الوقت ليس له سوى هذان المؤلفان ، و أستغرب تفرده و خصوصية أعماله بالمقارنة بآخرين ، و بالذات مع اعتبار نشأته المحافظة في قريته الصغيرة بالجنوب الأمريكي شديد التدين ، و كيف كان حبه للرسم مثار حنق الأهل و نفور الجيران ، و كيف واجه مخاوفه كلها ليقوم أخيرا بما يحب ، هذه الأجواء رصدها بشفافية في روايته الثانية ، و الحقيقة دوما ما ظننت أن ما عاناه طفلا و شابا في قريته قريب جدا لما يعانيه اي مراهق يهوى الفن في مصر ، فالعالمان يكادا ينطبقان باستثناء التفاصيل الصغيرة ، مثل الدين و الثلوج التي كست الرواية.
هذا المؤلف توماس أوت هو حدث خاص ، فالرسام الألماني أبى على نفسه إلا أن تصبح كل أعماله صامتة ، معدومة الحوار ، بلا أي كلمة أو تعليق ، فهو يرسم تتابع من الصور تحكي الحدث بسلاسة مذهلة ، و الأفضل أن كل أعماله تدور في أجواء صادمة سوداوية مما يلائمني تماما.
المضحك ، أن الرسام الألماني و إن ذاع صيته في أوروبا إلا أن أعماله لم تدخل الولايات المتحدة إلا مؤخرا ، على الرغم من عدم وجود مشكلة في اللغة ، لأن النص يعتمد على الصورة فقط ، إلا أنه فيما يبدو فإن المتلقي الأمريكي كان يجد ضيقا ما في متابعة نوع من الكوميكس يختلف عما ألفه طوال تاريخه.
يستخدم أسلوبا من التهشير و الشخبطة لرسم المساحات ، مما يجعل الصورة قريبة لشكل الطباعة الخشبية لكتب العصور الوسطى الأوروبية في رأيي ، و هذا يضفي جوا غيبيا قاتما علي القصص ، و ربما يختزا أحيانا عنصر العصر مما يروي ، فبينما أقرأ ٠ ان جاز التعبير - أشعر أحيانا ان الرواية تدور في بدايات القرن العشرين ، و أحيانا في أربعيناته ، و أحيانا في المستقبل ، كل وفقا للحالة المنبعثة من طريقة الرسم تلك.
دوما ما وجدت كتابة تقارير عن الأفلام و الكتب و الموسيقى أمر شديد الصلف و التعالي ، و لا أحبه بكل مسمياته ، نقدا كان أم تذوقا أم تحليلا ، فالكل بالنسبة لي أمر لا داعي له ، خاصة مع تفرد أذواقنا و اختلاف درجة تلقينا لغالب هذه الفنون و حبنا أو كرهنا لما نشاهد.
و ربما كتبت ما سبق لأتشارك مع الآخرين ما قرأت.
شكرا خاصا لـ "ر" التي تشاطرني هواية لا يشاركني الكثير فيها.
للتحميل و إلقاء نظرة - صيغة سي.بي.آر : (كبرياء بغداد ، وداعا شنكي رايس ، سينما بنوبتكوم )
لفظة "رواية مصورة" Graphic Novel ، هي لفظة مستحدثة ، و الكثير من كتاب و رسامين الكوميكس يرفضون المسمى تماما ، و لكن بعض الروايات المصورة طبقت شهرتها الآفاق مثل :WATCHMEN تلك التي أظنها تستحق كل التقدير.
يقول ألان مور مؤلف WATCHMEN ، و القاص الكلاسيكي : "تلك لفظة تسويقية لم اتعاطف معها أبدا ، المصطلح "كوميكس" أجده الأفضل بالنسبة لي ، الأزمة أن كلمة " Graphic Novel" أضحت تعني كوميكس غالية السعر، لذا فستجد أمثال "دي سي كوميكس" ، أو "مارڤل كوميكس" من مؤسسات يقومون بلصق أية ستة أعداد من أي هراء عديم القيمة تصادف أنهم قد نشروه ، ثم يضعون له غلافا لامعا ، و يطلقون عليها اسم (شي - هلك ، رواية مصورة)..."
بغض النظر عن المسمى ، إلا أنني قد قرأت الكثير خلال الاسبوعين الماضيين ، سواء في صورة كتب احتفظ بها ، أو في صورة رقمية محملة من الانترنت و مقرصنة في الغالب للأسف.
و قد وجدت ثلاثة روايات و اعتبرتهم بمثابة أحداث لا يمكن التغاضي عنها بسهولة سأختصر الحديث عنهم هنا:
- كبرياء بغداد -
كبرياء بغداد ، الحقيقة أعترف أنها لم تعجبني كثيرا رغم الجوائز، لكني أراها رواية مصورة مهمة ، و ذكية (أحيانا) ، هي انتاج عام ٢٠٠٦ ، كُتب في مفتتحها أنها بنيت حول حدث واقعي صار اثناء دخول الامريكان لبغداد ، قفد روى خبر صغير يوما أن القوات الأمريكية قامت باطلاق الرصاص على أربعة من الأسود الذين هربوا من حديقة الحيوان أثناء قصف بغداد ، الرواية تتصور يوم الهروب لهؤلاء الأسود ، و ما تعرضوا له حتى تم اطلاق الرصاص عليهم .
القصة بكاملها - ١٣٠ صفحة - لا يظهر فيها أي من بني البشر ، فقط نسمع تعليقاتهم او حديثهم على خلفية قصة الحيوانات المتكلمة ، الذين لا يعرفونهم كثيرا و يطلقون عليهم "الحراس" بدلا من بني البشر، و هذا أمر أظنه قد يستفز البعض ، خاصة أن لكل الحيوانات في القصة أسماء عربية مثل علي ، صفا ، و رشيد ،أنا لا أكترث ، ولكن ما ضايقني حقا هو التصوير المباشر لوضع الطوائف المتناحرة عن طريق عكسه على واقع الحديقة ثم المدينة/الغابة التي تجد الحيوانات نفسها فيها بعد تحررها ، و كيف لا يستطيعون غض الطرف عن علاقة الكره الموروثة بين الفصائل كالاسود و الغزلان و القردة . و لكن تم التعاطي مع فكرة "التحرير" بذكاء شديد ، و استحضارها للمساءلة طوال النص.
السرد بالقصة يدور بشكل تقليدي جدا ، و يستمر بشكل خَطي مع الأحداث ، و بالكاد ما نجد حدثا موازيا ، او استحضار لفكرة او تخيل ما ، باستثناء بعض مشاهد التذكر النمطية المعتادة ، و لكن ظل إيقاعها متسارع ، و حوارها متزن غير مستزاد.
الرواية تبدو مرسومة و ملونة رقميا ، كشأن الكثير من قصص الحركة في هذا العصر ، أظنه من الأفضل للمراهق قراءة رواية مصورة قريبة للألوان التي اعتادها في العاب الڤيديو و ما عداها ، و لكن هذا لا يمنع أن لهذه المدرسة باع في تطوير الكوميكس بشكل رهيب.
- وداعا شنكي رايس -
كنت قد كتبت من قبل عن كريج طومسون ، مؤلف الرواية المصورة البديعة Blankets ، و هذه الرواية Goodbye Chunky Rice ، هي العمل السابق لها.
القصة أعتبرها واحدة من افضل الروايات المصورة التي قرأتها قاطبة ، فهي تتمحور حول السلحفاة (شنكي) الذي يترك صديقه الفأر (الذي يظهر كحبيب أو عشيق أحيانا) ، ليودع إياه منطلقا لاستكشاف العالم . و الغريب أنه بالرغم من كونها أول أعمال المؤلف إلا أنها أكثر أعماله حداثة و خروج عن المألوف في اشكال الحكي و ربما في الرسم أيضا عن تاليتها.
تنتشر في القصة شخصيات عدة ، كلها مشوهة أو منقوصة بشكل ما ، و شديدة التوحد ، و كعادة مؤلفي الكوميكس النبلاء ، لم يخجل كريج من رسم شخصيات و أفكار قد يظنها المجتمع منفرة كثيرا. فمثلا واحدة من الشخصيات المحورية هما توأمتان ملتصقتان على سطح المركب ، و يتشاركان الرئة و الذراعان و جزء من الرأس ، و لكنهما لا تجِدا إجابة لسؤال شنكي : هل يمكن لأي منكن النفاذ إلى حلم الأخرى؟
أظن المؤلف قد قام بأشكال حكي و رسم غاية في الذكاء و الألمعية ، خاصة أن القصة تسري بين عدة محاور في المكان و الزمان ، فضلا عن تعدد الشخصيات حتى تصبحا السلحفاة و الفأر شخصيات شبه هامشية أحيانا.
و كانت الصفحة الواحدة في الكتاب بمثابة عالم كامل من التفاصيل و الصور و المربعات التي تروي القصة بشكل يبدو عفويا لأقصى درجة ، و أحيانا كان يستخدم التقطيع الكلاسيكي لمربعات الكوميكس كأداة جمالية و ليس أكثر ، و كأنه يرفض التعامل مع كل مربع كوحدة خاصة كما درج الرسامون و اعتادوا.
مؤلف شنكي رايس وراسمها في نفس الوقت ليس له سوى هذان المؤلفان ، و أستغرب تفرده و خصوصية أعماله بالمقارنة بآخرين ، و بالذات مع اعتبار نشأته المحافظة في قريته الصغيرة بالجنوب الأمريكي شديد التدين ، و كيف كان حبه للرسم مثار حنق الأهل و نفور الجيران ، و كيف واجه مخاوفه كلها ليقوم أخيرا بما يحب ، هذه الأجواء رصدها بشفافية في روايته الثانية ، و الحقيقة دوما ما ظننت أن ما عاناه طفلا و شابا في قريته قريب جدا لما يعانيه اي مراهق يهوى الفن في مصر ، فالعالمان يكادا ينطبقان باستثناء التفاصيل الصغيرة ، مثل الدين و الثلوج التي كست الرواية.
- سينما پنوبتكوم -
هذا المؤلف توماس أوت هو حدث خاص ، فالرسام الألماني أبى على نفسه إلا أن تصبح كل أعماله صامتة ، معدومة الحوار ، بلا أي كلمة أو تعليق ، فهو يرسم تتابع من الصور تحكي الحدث بسلاسة مذهلة ، و الأفضل أن كل أعماله تدور في أجواء صادمة سوداوية مما يلائمني تماما.
المضحك ، أن الرسام الألماني و إن ذاع صيته في أوروبا إلا أن أعماله لم تدخل الولايات المتحدة إلا مؤخرا ، على الرغم من عدم وجود مشكلة في اللغة ، لأن النص يعتمد على الصورة فقط ، إلا أنه فيما يبدو فإن المتلقي الأمريكي كان يجد ضيقا ما في متابعة نوع من الكوميكس يختلف عما ألفه طوال تاريخه.
يستخدم أسلوبا من التهشير و الشخبطة لرسم المساحات ، مما يجعل الصورة قريبة لشكل الطباعة الخشبية لكتب العصور الوسطى الأوروبية في رأيي ، و هذا يضفي جوا غيبيا قاتما علي القصص ، و ربما يختزا أحيانا عنصر العصر مما يروي ، فبينما أقرأ ٠ ان جاز التعبير - أشعر أحيانا ان الرواية تدور في بدايات القرن العشرين ، و أحيانا في أربعيناته ، و أحيانا في المستقبل ، كل وفقا للحالة المنبعثة من طريقة الرسم تلك.
دوما ما وجدت كتابة تقارير عن الأفلام و الكتب و الموسيقى أمر شديد الصلف و التعالي ، و لا أحبه بكل مسمياته ، نقدا كان أم تذوقا أم تحليلا ، فالكل بالنسبة لي أمر لا داعي له ، خاصة مع تفرد أذواقنا و اختلاف درجة تلقينا لغالب هذه الفنون و حبنا أو كرهنا لما نشاهد.
و ربما كتبت ما سبق لأتشارك مع الآخرين ما قرأت.
شكرا خاصا لـ "ر" التي تشاطرني هواية لا يشاركني الكثير فيها.
للتحميل و إلقاء نظرة - صيغة سي.بي.آر : (كبرياء بغداد ، وداعا شنكي رايس ، سينما بنوبتكوم )