١٤‏/١٠‏/٢٠٠٨

مايونيز على المدينة

بنجاح ، أعترف أنني قاطعت التلفزيون بشكل كلي ، لا أفتحه مطلقا ، ولا علاقة لي بمسلسلاته و إعلاناته إلا فيما أراه لدى الأصدقاء او على المقاهي . و لكن لم أنجح - الحقيقة لم أحاول ابدا - في مقاطعة الراديو.
و لكني افكر في الأمر جديا الآن ، فقد حدث بينما أنا ضائع بسيارتي في حي الوراق ، أن سمعت إعلانا في الراديو بين الأغاني ، يقول الإعلان: " رنة تليفونك حلوه ، بس غريبة شوية! ، ليه؟ ما تحط رنات ألبوم محمد محي الجديد ، اتصل برقم ٠٩٠٠ ، إلخ".
بالصدفة كان معي في السيارة فتاة عملت في وظيفة " كرييتڤ" - هكذا يسمونها - في شركة إعلانات دولية لفترة ، و الـ "كرييتڤ" هو من يعمل في وكالة الدعاية - يسمونها "إيچنسي" - و يقوم بخلق أفكار للإعلانات ، و كتابة كلمات الأغاني فيها - يسمونها "چنجلز" - و يخلق صورة عامة للحملة و الوانها و مفرداتها - يسمونها "إميدچ".

قالت الفتاة: الكرييتڤ اللي عمل الإعلان ده ، بِيتارجِت (بيستهدف) شريحة الشباب اللي عاوزين يعملوا رنة طاقّة أو مختلفة.
قلت: و مالو؟
قالت: مالو ايه؟ كده أكل عيشهم حيقف كشركة رنات. هما عاوزين الناس تعمل رنات من الأغاني اللي بيعملوها.

فكرت مرة ثانية ، الحقيقة محتوى الاعلان مخيف فعلا ، فالمغزي الواضح هو " لا تقم بوضع رنة مختلفة ، لا تكن مختلفا ، استخدم محمد محي".

أصبحت أزداد انزعاجا في القاهرة في الآونة الأخيرة بينما اسير في الشارع القاهري لسبب رئيسي ، و هو أن المدينة أصبحت تحارب بشدة اي اختلاف فردي قد يطرأ ، هناك تواطؤ تام من المجتمع على "تقديس النمط" كما يتكرر ، و على منع أي محاولة للتفرد و لو علي سبيل الرنة.

لي صديق هولندي ، اعتاد قضاء وقت في مصر بشكل دوري لأسبابه الشخصية ، سألني ذات مرة إن كنت اعرف ما هو أكثر ما يكرهه في مصر؟
قلت: تحرشات الناس في الشارع بك كأجنبي؟
قال: هذه مقرفة ، لكن ما اكرهه فعلا هو" كوك دور".
"كوك دور" ، هو محل وجبات سريعة متعدد الأفرع ، لا آكل منه لأنني أعاف اللحم بانواعه .
قال لي: "كوك دور" يعبر عن مصر ، هم يقدمون عشرات السندوتشات ، لحم و دجاج و أسماك ، و كلها مغروقة في التوابل ، و المايونيز و الكاتشب معا، وعادة الجبن ، و الخيار المخلل ، و بالكاد تشعر بما تأكلة ، المهم انه ذو طعم قوي ، و هذا الطعم يكاد يكون هو طعم أغلب الأكلات. و يسود فوق نوع محتوى الساندويتش الاصلي الذي من المفترض انه شخصيته.
كنا نسير في وسط المدينة ، "طبق المعادلة على الشباب" قال: "الشباب يرتدون تيشرتات بترتر يلمع ، اينما تنظر ستجد شابا يرتدي منه."
".. و الفتيات يرتدين حجابا مبهرجا ، ملونا ، صاخبا ، انظر حولك. وأحذية فضية" - لم انظر ، فقد كنت اعرف -.
تذكرت صديقي هذا ، في العيد الماضي ، في مشهد بديع حينما كانت كل فتيات ميدان التحرير الهاديء صبيحة العيد ، يرتدين لونين: الأخضر الفسفوري ، و الأصفر الفاقع.
سألت نفسي : كيف أحببن جميعا ان يتشابهن مع الأخريات ، كيف هذا الهوس الرهيب بالانخراط في موضة سريعة ، اوقف عقولهن عن التساؤل حول إن كانت حقا تريد ان تكون كالأخريات؟ أو هل لها خيار فعلا؟
بالمناسبة ، عندما قلت كل فتيات الميدان ، فلم أبالغ ، أعني بالحرف الواحد :كل فتيات الميدان.
جولدن ڤرچينيا ، تبغ ادخنه كلما تعكر مزاجي ، و لا أتخيل هذين اللونين
مجتمعين في أي صورة ، عدى هذه العبوة.
لو فكرت في الفنون الشعبية ، و لا اقصد بالشعبية السيرة الهلالية ،أو شعبان عبد الرحيم، و لكن أعني الفنون التي يستهلكها الشعب يوميا كالأغاني ، و أفلام الصيف ، فسنجد أن هناك رغبة عارمة في التصدي لأي نوع من التفرد أو الاستقلال ، ربما هو خوف من المغامرة و الركون للمألوف ، لكن لا أنكر ان هناك أيضا نوعا من القمع من السلطة - مؤسسات حكومية و شركات عملاقة - لوأد أي تفكير خارج الصندوق خوفا من أن يقوض ممالكهم المستمرة و القائمة على إبقاء الحال على ماهو عليه.



هناك شركات بعينها- لا تتعدى اصابع اليد- تتحكم في سلوك جمهور المنطقة اكثر من حكوماته.

و في هذا الصدد و أذكر صديقا لي ، هو ملحن مبتديء ، لحن أغنية لحنا جذابا ، و فكر أن هذا اللحن مناسب لصوت مغني لامع جدا ، عانى صديقي هذا كثيرا حتى فاز بموعد مع النجم الاسطوري ، و أسمعه الاغنية.
اعتذر المطرب بلباقة و قال: " الأغنية اعترف انها حلوة ، بس جديدة قوي ، مش شبه أي حاجة سامعها.." و كانت هذه حجته - صادقا - لرد صديقي خائبا.
يعمل صديقي هذا الآن مدرسا في دولة الكويت. و الحقيقة هي نفس وظيفة والده من قبله.
و الحق ان الفتى بذل جهدا دؤوبا ليصنع لنفسه تاريخا مغايرا ، في بلاد تقدس التكرار.
و تكرار التكرار.

هناك ٩ تعليقات:

  1. أصبح عندى أمل أن يُمل التكرار
    ,وأن يبدأ التفكير فى كل هذا المايونيز, ماذا يخفى ورائه؟
    وبالرغم من صعوبة البحث عن الفردية والشخصيه التى قد يجهل أحدهم انها بداخله ,فما بالك بفرضها
    فتأمل هذه التدوينة بجانب مايثيره من فزع لأول وهلة من قرف الواقع, يعطى أمل فى أن هناك من يلاحظ وهناك من يحاول.

    ردحذف
  2. Good Post Indeed ... and I agree we are very much interested in being typical than facing the fear of being different

    "
    بالمناسبة ، عندما قلت كل فتيات الميدان ، فلم أبالغ ، أعني بالحرف الواحد :كل فتيات الميدان.
    "

    مصدقاك، شفتهم بعيني وكان شيء غير معقول. رحلتي في أول يوم العيد من الجيزة إلى مصر الجديدة وأينما انظر أجد في المشهد بقع متكررة من الأخضر والأصفر .. غريب أن اجد مثلاً ثلاث فتيات يمشين معاً والثلاثة يلبسن نفس اللونين! دي حتى حاجة تغم النِفس.

    ردحذف
  3. غير معرف١٠/١٥/٢٠٠٨

    (التماثل) هو اقتراب من (المثال) في حقيقته, ك نزعة, هؤلاء لا يختلفون عنك أو عن الصديق الهولندي, فقط الشكل والمضمون كان سيئاً ومبهرجاً وعديم الذوق, ربما لظروف هذه البلاد, مادياً وثقافياً.
    ربما في بدايات الأمر كان كما تقول : خوفاً من الاختلاف, لكن : الاختلاف في العقل الشعبوي هو نقص, والنقص يزداد إيلاماً كلّما كان المألوف بهذه الضخامة.

    ما أراه لا أكرهه مثلك ولا يضايقني. هو حتى ليس ضحالة تفكير ولا غباوة, نفوس هشّة, محبطة على الدوام لم تتسن لها فرصة تحقيق نجاح شخصي, هؤلاء يرغبون بأي شكل في تحقيق الكمال المضمون والسريع

    أي شيء أفضل وأبهى من أن يشبهك الجميع ؟

    ردحذف
  4. كنت حاسس ان نوستالچيا الجســر حتكون تدوينتك الاخيرة مش عارف ليه؟؟؟!!
    بس كويس انها مش الاخيرة
    و بعدين بخصوص المايونيز اللى مغطى المدينة كلها
    فى اغنية قديمة لطيبة
    كل شئ يشبه لبعض ماحد دارى بهم حد
    سمك لبن و تمر هند
    و ده بقى حال القاهرة دلوقتى او ده حالا دايما!!!!!!!

    ردحذف
  5. غير معرف١٠/٢١/٢٠٠٨

    التفكير في الموضوع ده مسيطر عليا من فترة
    مأساة فعلا لو حاولت تبص علي فترينات محلات الهدوم في وسط البلد هتلاقيها نسخ متكررة مفيش حاجة ببتغير غير اسم المحل اللي أكيد -طالما مش مختلف -مش هتدور عليه
    حتي المكتبات الكتب خان زي الديوان زي البلد
    يمكن الديكور مختلف شوية
    بس في الآخر نفس الفكرة مفيش حاجة ليها مختلفة بشكل كافي يترك فيا انطباع
    حتي الاختلاف الناس بقت شبه بعضها لما بتختلف
    يعني كـــــــــل اللي عايز يسمع مزيكا مختلفة بقي بيسمع وجيه ومنير ومارسيل
    وكل اللي عايز يقرا حاجة مختلفة بقي بيقرا باولو كوهيلو
    وكل بنت عايزة تعمل ستايل مختلف بقت بتعمل شعرها غجري وتلبس شنط قماش من خان الخليلي واكسسوارات فضة
    حتي الشتايم بقت تقريبا متكررة
    حاجة تخنق
    هو احنا ليه بنجري ورا بعض كدة ؟
    ليه مفيش حد بيجري ورا نفسه
    رغاية أنا صح

    ردحذف
  6. لية صديق مؤمن بنظرية المؤامرة ,مقتنع بأن في حاجة اسمها الهيئة العليا للمحجبات,هي الي بتنزل اليونيفورم بتاع كل سنة,و ان الي ما بتلزمش بية بتعاقب بأنها تلبس نقاب مثلا!

    ردحذف
  7. من أجمل المدونات التي ازروها بأستمرار صراحتن مدونتك جميلة ورائعة وتحياتي للمايونيز على المدينة
    تحياتي واحترماتي

    ردحذف
  8. مصر فقدت طعمها حتى بدون المايونيز
    اعجبنى تعليقc

    ردحذف
  9. يمكن لأن الناس كتير فا مهما كان في اختلاف هاترجع وتلاقي ناس كتير زي بعض

    يعني بوافق ان احيانا بيكون هناك شئ سائد على الكل ومن اختلف عنه يعتبر خارج عن الجماعة :)

    تشابه اللبس انا لاحظته بشدة في زيارتي الاخيرة لمصر
    لأني كنت بمنّي نفسي باني هاعمل كمية شوبنج لا بأس بها من مصر .. وبعد شهر تقريبا وخمس مرات انزل على السوق .. رجعت بقميص واحد !

    ياريت نسمع اللحن الغريب في شريط حد مغامر قريبا :)

    مش عارفة ليه حاسة ان المطرب المذكور هو عمرو دياب ؟!

    تحياتي

    ردحذف

المدونة و التدوينات ، بلا حقوق فكرية ، باستثناء الأعمال الفنية و الموسيقات فهي ملكية خاصة لأصحابها.

  ©o7od!. Template by Dicas Blogger.

TOPO