١٦‏/٠٨‏/٢٠٠٧

من الأدب الرديء

قبل الآن بسنوات لا أذكرها ، و بينما الأفق تعلوه سماء رمادية ملبدة بأطياف سوداء ، كنت أقود عربتي في صمت ، الراديو لا يعمل ، و لا نتحدث ، نظَرَت هي مطولا إلى الأفق الداكن في تلك الظهيرة الباردة ، بلا حراك أخَذَت هي تتابع السحاب القطني باهتمام قاريء ستيني دؤوب ، في هدوِئه و هدوئِِها المعتاد . لحظات و الَتَفَتت من خلفها ، لترَى امتداد السماء في جهة الوراء ، كانت رمادية ، و لكن أكثر سوادا.
فتَحَت شباكها الموصد إلى جوارها ، و أخرَجَت رأسها بهدوء ، و حينها شَمَمْت أنا رائحة الشتاء لأول مرة في عامي القديم هذا ، هي رَفَعَت رأسها للأعلى ، و استمرت تحملق في السماء هناك ، لم أشأ أن أقطع الصمت ، و قلت أن أتركها حتى تسأم ، و إن كنت أعلم أنني لا أفوز أبدا إن كان الانتظار سلاحاً ، و لكنني آثرت الاسهل ، و انتظرت..و أذكر أنني اختلَسْت نظرة سريعة إليها، كنت أحب شكلها هكذا ، و لم أدر لماذا ..
بعد وقت لم أقدّره ، دخَلَت ، و أغلَقَت النافذة الباردة ، ابتسَمْت أنا بدبلوماسية شتوية ، زمَّت شفتيها و أشاحت برأسها ناحية نافذتها ...
قالت: حاجة خرا.

-
أختِرقُ المارة و يقطر العرق من تحت إبطي ، أرى أسطح السيارات تتماوج ، وهناك بالأعلى شمس قاهرية تدق فوق رؤوس الجميع ، دخلت ذلك المحل المكيف ، أعطيتَه كعبا ورقيا ، و سألته الصور التي يظهِّرها ، و حينها ، و كقِصّة من أدب ركيك ، وجدتها هناك ، الَتَفَتت من آخر المحل ، و تقدّمَت نحوي بثبات ، نظَرْت مشدوها لطيف لم أحسب له وجود ، كانت كما كانت، لم يغيرها تعاقب الفصول ، و لم تتغير طويتها، كنت أعلم ذلك من دون أن نتبادل كلمة . احتضنتني وقبلتني وفقا لعاداتها المكتسبة ، فتحفظ صاحب المحل ، و لكنها كانت على عجلة كشأنها ، فأمسَكَت بكتفي - لم أعلم لماذا - و بدون أن تنطق بأي كلمة ، استدارت نحو الشارع ، و غابت.
أخذتُ مظروف الصور و شكرْتُ الرجل ، فأحس بحرج ما، أوقفني فقال:
- الظاهر إنه كان في مشكلة في التعريض ، الصور ما طلعتش .
و باحتراف أمسك لفافة الفيلم السالبة بانامله ، و تركها تنساب أمام عيني ، شفافة شفافة ، بلا أي خيال .
بلا أي وجه .

-
حينما أصرَّت هي خلال مكالمة قصيرة أن أراها ، قررت أن أكون نزقا ، قلت أن حياتي تغيرت ، و لا مكان فيها لما أذكر.
قالت إذن غدا في الخامسة نلتقي، و أغلقت.
و بخليط من ملابس غجرية ، آسيوية ، أوروبية ، و بقرط فضي مشغول من أعماق الصعيد ، تحدثت لأول مرة بعد سنوات طوال ، و كانت الفتاة قد ضاعت في غياهب عقلها تماما ، و الحق انني لم أتأكد من صحة كل ما روت في جلستنا هذه ، لكنها أخذت تتنقل من حديث حول مطاردة الأمن لها ، لأموال طائلة بددتها ، لعلاقات جسدية مرتبكة ، لأحداث رؤيتها لجرم سماوي مضيء ، و ربما كانت سفينة فضائية تقترب من الأرض ليلا في بلاد مشرقية بعيدة حيث عاشت لسنوات.
حاولت أن أخبرها أنها لم تسافر ، و أنها كانت في القاهرة ، و أننا تبادلنا التحية في محل تصوير منذ بعض أعوام ، قالت:
أحمد.. انت أكيد غلطان.

-

كان الضوء خافتا ، و كنا نجلس على الأريكة متجاورين . مع تبدل الأزمنة ، كنت قد أصبحت شخصا معقد الحسابات ، و مادي النزعة و روحاني في أوقات أخرى ، و لا أتعرف على لحظات التبدل هذه في داخلي أبدا.
كعادتها، كانت هادئة ، شديدة الجمال ، و في العمق تغني فرقة* منسية من عصور الستينات شيئا عن الموت ، فكرت أنه ربما على أن ألمسها بأي شكل كان ، و مهما كانت نتيجة هذا الأمر ، و لكنني لم أفعل . واستغرقت في السمع.
لم يكن الجو باردا ، و لا حارا ، فقط شيء وسط ، وأقلقني ذلك ، كنا صيفا ، أعلم ذلك ، و لكنه لا يؤثر في كثيرا. فكرت كيف تتساوى الاشياء الآن عندي ، بل و ربما تختلط ... الفصول ، الرغبة ، الحب ، و حتى المادة و الروح .
كنت أفكر كثيرا ، كثيرا ، وحتى في جلساتي التأملية الروتينية في الصباح ، لا تنفك مخاوف و هواجس تنساب إلى عقلي. تذكرت و أنا بعد مراهق ،كيف كنت أظن أنني يوما سأحصل على استنارة ما ، و أجدني أبعد ما أكون عنها الان ، لا أعرف... لماذا أفكر في ذلك الآن بينما هي جالسة ؟
إيقافا لعقلي نهضت لأحضر بعض الثلج للشراب ، و في المطبخ المظلم ، فتحت باب البراد لأجلب المكعبات ، فانساب هواء بارد لوجهي ، فكرت حينها أنني ربما على درب خاطيء ... و رجعت و فكرت أنني ربما على صراط الصواب... لا أعرف..
هامسا لنفسي قلت: حاجة خرا. ـ

ـــــــــــــــــــــــ
*

powered by ODEO

هناك تعليقان (٢):

  1. كنت أحتاج لسرد بديع لمثل هذه الحالة بالتحديد.
    وده مش أدب رديء أبداً.
    جميل جداً.

    ردحذف

المدونة و التدوينات ، بلا حقوق فكرية ، باستثناء الأعمال الفنية و الموسيقات فهي ملكية خاصة لأصحابها.

  ©o7od!. Template by Dicas Blogger.

TOPO