أخيرا هدأت المدينة. اكتسحت الأمطار سكانها إلى منازلهم و اصطفت المنازل بدورها في المشهد الرمادي الرزين. الآن أستطيع اجترار الأيام الماضية وادعاء أن شيئا لم يحدث.
الآن أستطيع أن أعبر الشارع الفارغ دون أن تستوقفني مشاعرهم الوطنية مستنكرة "ماذا، ألا تحمل علما وتلوح به أو تغني للوطن أو تضحك حتى الإغماء؟ ماذا، ألا تقفز في الهواء وتشعل النيران وتسد نهر الشارع مع إخوانك في القضية؟ ماذا؟ ما معنى: لم تشاهد المباراة من الأصل؟؟"
يوم شتوي مشرق معتدل ، كأنما أعدته خصيصا لجنة تنظيم كأس الأمم الإفريقية... أستيقظ بصعوبة بعد ليلة أرق لتسليم عملي في الطرف الآخر من المدينة ... أحاول استجماع أفكاري وتأتيني شذرات من حوارات البارحة ... غرقت العبارة ... راح في الحادث 1000 مواطن... عملية فساد متعددة الجنسيات ...لم نستطع مقاومة إغراء أن نشارك هذه المرة أيضا ... القبض على قبطان سفينة أخرى لم يغامر بحياته وحياة ركابه لمحاولة إنقاذهم ... أقرباؤنا استقلوها من خمس سنوات واشتكوا من سوء حالتها... أشرب الشاي بتعجل وأجهز أوراقي ... سيمر صديق ليقلني في طريقه ...
وصلت بعد الميعاد بساعة ونصف، إذ استغرق مرور شارع صلاح سالم ما تستغرقه عادة المسافة من القاهرة إلى الإسماعيلية. "أخ، إزاي نسيت، ده احنا النهاردة بنلعب..." واتصل بأخته للاطمئنان على وصولها للمدرجات سالمة، فأجابته أنها في المنزل. "تخيل، معاها تذكرة، ووقفت قدام الباب من الساعة اتناشر، ومادخلوهاش!"...شكرته ونزلت.
أنهيت المهمة وفي طريق العودة استقللت تاكسيا... آخر الشوط الثاني في الراديو... تعلمت أنني عندما أفيق على جملة "جون غريب غريب غريب" أو "غلطة قاتلة" يكون العدو قد أحرز هدفا في مرمانا، ووجب علي إطلاق صرخات الألم كأنما انتهك شرفي أو فقدت منزلي أو علمت للتو أن عمتي فاطنة لاقت ربها وحيدة بمنزلها بالصعيد الجواني. المسألة أن الأمر انتهى بـ"جون جميل جميل جميل" لصالحنا، وبدأت الهستيريا. كنت على وشك مطالبة السائق بالكف عن إصدار اللحن المقيت من بوق سيارته عندما فوجئت بجحافل التتار تغزو نهر الشارع والزغاريد تنطلق من المنازل والفتيات يخرجن من العربات مهللات والناس تكلم بعضها في انتشاء والقبعات الملونة والوجوه المصبوغة والغناء... استعدت مشهد كرنفالات أمريكا اللاتينية وخروج الناس إلى الشارع في تحية للحياة وتحد لكل ما لم يأت بعد وفرحة رغم الكوارث وصعوبة الظروف.أفقت من رؤاي على صوت السائق يسب ويلعن. شباب المستقبل يسد عرض الشارع ويجبر السيارات على التوقف ومشاركته نشوته والهتاف باسم الوطن. أنظر للوجوه حولي وأتذكر حواراتي مع أفراد العائلة وسائقي التاكسي وزملاء الدراسة والعمل في محاولة لمعرفة "من يريد البقاء ومازالت البلد تعني له شيئا" وكانت الإجابة: شخص واحد. جدي الضرير. يصلني رنين الهاتف بصعوبة وسط الضجيج: "تخيل يا أخي؟ كل دول غرقوا والبلد مش في حالة حداد؟ ده برة لما يموت 20 مواطن في كارثة زي دي ينكسوا الأعلام في سفاراتهم في الخارج! أنا مش فاهم حاجة خالص!!" اعتذر لصديقي الذي عاد من الخارج منذ سنوات لكن لا يفهم بعد، ووعدته بالاتصال من مكان هادئ. مرت عشرون دقيقة دون أن نتحرك مترا للأمام. في خطوة يائسة، ذهب سائق السيارة المجاورة للمتجمهرين ليخبرهم بوجود سيدة على وشك الولادة في مؤخرة صف العربات، لكن أحدهم أجابه بالبصقة الطويلة وتلويحة اليد الشهيرة التي تعني باللغة الدارجة "في داهية!". بعد مرور نصف ساعة استطعنا الوصول لشارع جانبي نفلت منه إلى منطقة نستها الوطنية فتمكننا من الوصول لمنزلي في ثلاثة أضعاف الوقت المعتاد فقط. على البسطة قابلت جارا لي يعمل بالصحافة أخبرني أنهم علموا أثناء تغطية الحدث أن الهيئة المنظمة للدورة عينت في بداية الأمر مشجعات يدهن وجوههن ويرتدين القبعات الوطنية ويلوحن بالأعلام اقتداء بمشجعات الدوري الإنجليزي والأسباني والفرنسي، فيستدرجن أبناء الطبقة الراقية التي لم تشرف ملاعبنا المتواضعة من قبل: "يا ابني ده كان فيه عربيات بورش!"
ظللت أياما أبحث عن حادث العبارة في الإعلام المحلي أو المحادثات اليومية وظننت أنه قد طمسه النسيان. لكن ظلما ظننت، فبعد أسبوع، عندما أنعم الله علينا بالفوز العظيم، قامت الصحيفة الرسمية بلفتة تدمع لها الأعين، وصرحت أن الفوز قد " خفف حالة الحزن الناتجة عن غرق العبارة". حاولت استرجاع "حالة الحزن الناتجة عن غرق العبارة" فلم أجد سوى شارع بألوان العلم، وأبواق سيارات تقض مضجعي حتى الساعات الأولى من الفجر، وصوت مراسلنا في الملاعب يصرخ: "أنا مصر عندي أحب وأجمل الأشياء
الآن أستطيع أن أعبر الشارع الفارغ دون أن تستوقفني مشاعرهم الوطنية مستنكرة "ماذا، ألا تحمل علما وتلوح به أو تغني للوطن أو تضحك حتى الإغماء؟ ماذا، ألا تقفز في الهواء وتشعل النيران وتسد نهر الشارع مع إخوانك في القضية؟ ماذا؟ ما معنى: لم تشاهد المباراة من الأصل؟؟"
يوم شتوي مشرق معتدل ، كأنما أعدته خصيصا لجنة تنظيم كأس الأمم الإفريقية... أستيقظ بصعوبة بعد ليلة أرق لتسليم عملي في الطرف الآخر من المدينة ... أحاول استجماع أفكاري وتأتيني شذرات من حوارات البارحة ... غرقت العبارة ... راح في الحادث 1000 مواطن... عملية فساد متعددة الجنسيات ...لم نستطع مقاومة إغراء أن نشارك هذه المرة أيضا ... القبض على قبطان سفينة أخرى لم يغامر بحياته وحياة ركابه لمحاولة إنقاذهم ... أقرباؤنا استقلوها من خمس سنوات واشتكوا من سوء حالتها... أشرب الشاي بتعجل وأجهز أوراقي ... سيمر صديق ليقلني في طريقه ...
وصلت بعد الميعاد بساعة ونصف، إذ استغرق مرور شارع صلاح سالم ما تستغرقه عادة المسافة من القاهرة إلى الإسماعيلية. "أخ، إزاي نسيت، ده احنا النهاردة بنلعب..." واتصل بأخته للاطمئنان على وصولها للمدرجات سالمة، فأجابته أنها في المنزل. "تخيل، معاها تذكرة، ووقفت قدام الباب من الساعة اتناشر، ومادخلوهاش!"...شكرته ونزلت.
أنهيت المهمة وفي طريق العودة استقللت تاكسيا... آخر الشوط الثاني في الراديو... تعلمت أنني عندما أفيق على جملة "جون غريب غريب غريب" أو "غلطة قاتلة" يكون العدو قد أحرز هدفا في مرمانا، ووجب علي إطلاق صرخات الألم كأنما انتهك شرفي أو فقدت منزلي أو علمت للتو أن عمتي فاطنة لاقت ربها وحيدة بمنزلها بالصعيد الجواني. المسألة أن الأمر انتهى بـ"جون جميل جميل جميل" لصالحنا، وبدأت الهستيريا. كنت على وشك مطالبة السائق بالكف عن إصدار اللحن المقيت من بوق سيارته عندما فوجئت بجحافل التتار تغزو نهر الشارع والزغاريد تنطلق من المنازل والفتيات يخرجن من العربات مهللات والناس تكلم بعضها في انتشاء والقبعات الملونة والوجوه المصبوغة والغناء... استعدت مشهد كرنفالات أمريكا اللاتينية وخروج الناس إلى الشارع في تحية للحياة وتحد لكل ما لم يأت بعد وفرحة رغم الكوارث وصعوبة الظروف.أفقت من رؤاي على صوت السائق يسب ويلعن. شباب المستقبل يسد عرض الشارع ويجبر السيارات على التوقف ومشاركته نشوته والهتاف باسم الوطن. أنظر للوجوه حولي وأتذكر حواراتي مع أفراد العائلة وسائقي التاكسي وزملاء الدراسة والعمل في محاولة لمعرفة "من يريد البقاء ومازالت البلد تعني له شيئا" وكانت الإجابة: شخص واحد. جدي الضرير. يصلني رنين الهاتف بصعوبة وسط الضجيج: "تخيل يا أخي؟ كل دول غرقوا والبلد مش في حالة حداد؟ ده برة لما يموت 20 مواطن في كارثة زي دي ينكسوا الأعلام في سفاراتهم في الخارج! أنا مش فاهم حاجة خالص!!" اعتذر لصديقي الذي عاد من الخارج منذ سنوات لكن لا يفهم بعد، ووعدته بالاتصال من مكان هادئ. مرت عشرون دقيقة دون أن نتحرك مترا للأمام. في خطوة يائسة، ذهب سائق السيارة المجاورة للمتجمهرين ليخبرهم بوجود سيدة على وشك الولادة في مؤخرة صف العربات، لكن أحدهم أجابه بالبصقة الطويلة وتلويحة اليد الشهيرة التي تعني باللغة الدارجة "في داهية!". بعد مرور نصف ساعة استطعنا الوصول لشارع جانبي نفلت منه إلى منطقة نستها الوطنية فتمكننا من الوصول لمنزلي في ثلاثة أضعاف الوقت المعتاد فقط. على البسطة قابلت جارا لي يعمل بالصحافة أخبرني أنهم علموا أثناء تغطية الحدث أن الهيئة المنظمة للدورة عينت في بداية الأمر مشجعات يدهن وجوههن ويرتدين القبعات الوطنية ويلوحن بالأعلام اقتداء بمشجعات الدوري الإنجليزي والأسباني والفرنسي، فيستدرجن أبناء الطبقة الراقية التي لم تشرف ملاعبنا المتواضعة من قبل: "يا ابني ده كان فيه عربيات بورش!"
ظللت أياما أبحث عن حادث العبارة في الإعلام المحلي أو المحادثات اليومية وظننت أنه قد طمسه النسيان. لكن ظلما ظننت، فبعد أسبوع، عندما أنعم الله علينا بالفوز العظيم، قامت الصحيفة الرسمية بلفتة تدمع لها الأعين، وصرحت أن الفوز قد " خفف حالة الحزن الناتجة عن غرق العبارة". حاولت استرجاع "حالة الحزن الناتجة عن غرق العبارة" فلم أجد سوى شارع بألوان العلم، وأبواق سيارات تقض مضجعي حتى الساعات الأولى من الفجر، وصوت مراسلنا في الملاعب يصرخ: "أنا مصر عندي أحب وأجمل الأشياء