١٠‏/٠٣‏/٢٠٠٧

جرافيتي القاهرة


بالأمس ، يوم الجمعة ، استيقظ سكان مصر الجديدة على حالهم ، شربوا قهوتهم ، تحدثوا إلى الأقربين في التليفون ، تصفحوا الجرائد ، و من يعمل في الجمعة ربما انطلق إلى عمله ..
أما عني... فقد أشرق على الصباح واقف ملطخ بالألوان في شارع الميرغني ...
فقد كنت ضمن ٨ من شباب آخرين ، نقوم برسم و تلوين الجدران ، و ننطلق بسرعة قبل أن نمسك !
لأول مرة ، حدثت حركة للجرافيتي في مصر ، و أقصد بحركة ، أن أكثر من شخص اجتمعو بعد منتصف الليل ، و تشاركوا الاسبريهات و الألوان و التصميمات ، ليصبح ذلك ممكنا...
الجرافيتي ، هو فن ممنوع في بعض من البلدان ، كما أنه معترف به علميا كذلك ، يقوم على تقديم أعمال ، و أفكار لكل الجمهور ، في الشارع
بلا أي هدف سوى تلك اللذة الخفية بأن الشارع كله الآن لنا!... و لننطلق!

كنت قد شاهدته في بلجيكا منذ زمن ، و في محطات مترو فرنسا.. و لكني لم أشاهد في القاهرة سوى "شلة الجوع الكافر " ، أو "قابل الموت ولا تقابل هؤلاء" أو " شيماء (قلب و سهم) ثم علامة استفهام!"...
كيف وجدت نفسي بينهم و أنا لست براسم ، و لا بمصمم ، و لا بنازع للمغامرة؟ الأمر بسيط..
بدأ بيوم رديء السير كعادة هذا الاسبوع ، و كنت قد تلقيت خبرا مزعجا عبر البريد ، و كنت شديد القلق ، و اليأس ، و ربما القنوط من جدوى العديد من الأشياء.
و بينما كنت منكبا على عمل روتيني ما ، فاجأني أحد أصدقائي سائلا:
هو: عارف الكاتاليست؟
أنا: العامل المحفز الكيميائي؟
هو: أيوة ، لكن قصدي مجموعتنا ، الآي كتاليست! (كنت أعرف أن مجموعة من معارفي من شباب مصممي الجرافيك في مصر ، قد أنشئوا مجموعة سيبرية/واقعية ، ليتبادلوا فيها أفكار و خبرات و لست بفرد منها ، و لكن منهم أصدقاء و صديقات )
أنا: أيوه ... كنت باتفرج على شغلكم ع النت من كام يوم.
هو: حنتجمع يوم الخميس بالليل، بعد الساعة ٣ قدام مكدونالدز الميرغني ، حنتقسم مجاميع ، ناس حترسم ع الحيطة ، و ناس ع الأرضيات..
أنا: بتتكلم بجد؟
هو:تحب تيجي؟!
أنا: طبعا حاجي!!!

أغلقت السماعة ، و تركت عملي ، و انطلقت إلى الاستديو العتيق الذي يرسم فيه صديقي ذلك ، كان هناك آخرين ، و بدأنا جميعا في وضع تصميمات ، و تفريغات استنسل ، و تكلمنا و تناقشنا و ضحكنا كثيرا...
قام أحدنا بعمل تفريغ للوحة حافظوا على نظافة مدينتكم ، لكن الشخص المرسوم . بدلا من أن يلقي بكيس أو ورقة فارغة ، فقد رسمه يلقي بأذن بشرية! و كتبنا بجواره: عيب ترمي ودن!

أما الآخر فقد أتى بتفريغ شديد البساطة لـ (لباس) جيل! كما أسماه ، مؤكدا أن شكل هذا اللباس الداخلي شديد العمق في تأثيره على حياتنا و نحن صغار و كبار ، و الآخر رسم حذاء عال الرقبة ، شديد التفصيل بحجم انسان ، كل هذا كان تفريغ على ورق مقوى ، ليتم الرش من فوقه الاسبراي الدوكو في الموقع كما مبين بالشكل بالأعلى.
سألت : (الغرض الاستفزاز)ألا يعتبر رش الحوائط و الكباري ، نوع من التخريب؟
قالوا: إن الكثير يعتبرونه تخريب ، لكننا لا نبالي....
جهزنا عبارات من نوعية: (كلام فاضي) ، (طبلت و حتحلو) ، (آي كاتاليست!) مفرغة.
و نزلنا الشارع...

كانت الكهرباء في الجو طوال الطريق، كنا في السيارات شديدوا الحماسة ، أنا أقترح الرسم علي الكوبري ، و هم يقترحون مدارس الزمالك ، لكن افتتاح الحدث تم من أمام مكدونالدز المرغني، لماذا مكدونالدز الميرغني؟ تلزم نبذة تاريخية:

كريم .. هو أصغر الحاضرين جميعا ، هو بعد طالبا للفنون ، و أعتقد أنه من أكثر الشباب الذين رأيتهم في الفترة الأخيرة موهبة ، نظرا لحداثة سنه ، فضلا عن روحه الصافية و انسجامه الشديد معنا ، و أغلبنا كان يراه لأول مرة ...
كريم يعيش في مصر الجديدة ، و كان صاحب أشهر جرافيتي في العام الماضي في القاهرة ، و هي رسمة ملونة جميلة ، توجد تحت كوبري المرغني ، كنت ألاحظها في جولاتي كثيرا ... علقنا عنها مرة أنا و آخرين ، لكننا لم نعرف قط صانعها.. و قد تلف الآن جزء منها.


(جرافيتي كريم الشهير ، قبل و بعد التخريب)
علمت أن كريم كان ينزل من بيتهم فجرا محملا بألوان و بويات ، ليقوم بأعمال متناثرة في القاهرة ، كلها رسومات خاصة ، و ليس لها أي اتجاه سياسي أو أيديولوجي ، و علمت أنه مهتم ،و شديد الدراية بهذه الحركة في مصر و الخارج ، و حكى لي أنه كان ينزل ليرسم وحيدا ، و يأتي حوله أمناء الشرطة أحيانا مرتابين من الشخص الذي يرسم و يلون الحوائط فجرا ، و في مرة سأله الشرطي:" بتعمل دعاية؟" قال كريم بتلقائيته الرهيبة: "لأ، أنا أصلي مريض ، ما باعرفش أنام ، و باحب الحاجات دي!"
فتركه الرجل و انصرف!
لذا كان لا بد من أن نبدأ من المكان الذي وضع فيه كريم بذرة هذا العمل ، فذهبنا ، و هناك التقينا بالباقين ، كنا ٨ ، جمعيهم يعدون من أهم مصممين الجرافيكس في مصر و ربما في الخارج أيضا ، جميعهم يعملون في وظائف حيوية في وكالات اعلانات عالمية ، و جميعهم شديد الانشغال ، و لكن لم يتخلف منهم أحد...

دقائق و كان كل لديه استنسلاته ، و بدأنا في الرسم على أعمدة الكوبري أمام المكدونلدز ، و البعض رسم أرضا ،كان هناك العشرات من علب الاسبراي الملونة ، عشرات الفرش ، جرادل بوية بيضاء لطلاء الخلفيات قبل العمل ، و كل شيء معمول له حساب.
ظهرت الرسومات واحدة تلو الأخرى - كانت أعمالي أقلهم ، نظرا لفرق الخبرة و الحرفنة، و إن كانت نالت استحسانا ما - أطلق واحد لوحة الحذاء ، كان الحذاء الضخم جليل الجمال ، حتى أن بعض المارة في الفجر كانوا يقفون ليلتقطوا صورا تذكارية بموبايلاتهم إلي جواره!

أتونا شباب من المنطقة ، قلنا :ها قد بدأت المتاعب ، .. لكن فوجئنا أنهم أتوا عارضين خدماتهم ، و المساعدة في أي شيء.
كانت السيارات تقف ، و ينزل فتيان و فتيات ، يسألوا احنا مين ، و لماذا نقوم بذلك ، و لا يجدوا اجابات شافية ، لأنه لا توجد اجابة فعلا.
و كانت هناك جرافيتي رائعة لشخصية مطاعم مكدونالدز (ذلك المهرج) و هو يجري ، و كتب المصمم في أعلاه بنفس الطريقة :


و لكن نجم اليوم كان العمل الذي قام به كريم بالشراكة مع آخر ، كان وجها كبير ، بطول انسان أو أعلى ، لعمرو دياب في مرحلة الثمانينات ، كتب أعلاه بكاليجرافي عربي : ميال!
قالوا أنهم يحاكون البوب آرت ، و سيعملون على ثيمات شعبية طالما أعيتنا و نحن صغار.
كان عملا كبيرا دقيقا ملونا مجنونا... شارك الكل في عملية تكوينه المعقده..

أشرقت الشمس علينا ، كانت أيادينا و أحذيتنا مطلية بألوان عدة ، و بدأت حركة الناس ، قلنا أن لا بد أن نرحل...
و بدأنا في جمع كل ما تركناه علي الأرض ، الكثير من الورق المفرغ ، أشرطة اللاصق ، قفازات ، كمامات ...
وفقا لمبدأ : "احنا صحيح بنخرَّب الحيطة ، لكن ما بنوسخش الأرض!"
و جمعنا علب الاسبراي ، و بدأنا في البحث عن مكان نلقيهم فيه ، لأنه وفقا لكريم :" لو سبنا أي حاجة قريبة هنا ، الناس حتجيبها و تبوظ بيها الشغل!" و قد عانى من ذلك مرات..
فجأة كان أمامنا طفل صغير من الزبالين ، يسير دافعا الجونيا الكبيرة ليلم فيها القمامة ، ذهبنا إليه و ألقينا بكل شيء في جرابه الضخم ، شخر بعنف ، فنفحناه بعض المال...
ما أن عدنا لنركب سياراتنا إلا و لاحظ أحدنا أن الطفل يمسك أحد علب الاسبراي ، و يبخه في وجه ، و يريد أن يشمه!!
جرينا نحوه ، وجدنا علبة واحدة فقط هي التي لا تزال بها بعض اللون ، و يبدوا أنه ظنها "كلة" أو ما شابه ، أخذناها ، أبى بعنف ، و شخر مرة أخرى ، عندها اضطررنا لشرائها منه بعشرة جنيهات!!
سعرها الاصلي: ثمانية...

و لكننا أنقذنا الصبي من تسمم مؤكد ، أو هذا ما ظننا ، و كان الافطار ، بأيدينا الملوثة في مطعم "الغريب" في الكوربة الجميلة ، كان الجو هادئا ، و الناس سكون، تكلموا عن الحركات الفنية و عن التصميم للشبكة و عن الجرافيتي في العالم ، و في مصر ، سأل أحدهم: حد يعرف الجرافيتي اللي في الممر في مدينة نصر؟
سألت: عامل ازاي؟
قال: من أول الحيطة في جندي جاد جدا ماسك بندقية بينشن ، و في آخر الممر فيه أرنب!!
ضحكت ، تساءل: حد يعرف مين اللي عمله؟ قال كريم بخجله : أنا.... حياه الجميع.

قلت له أنني جد سعيد بهذا اليوم ، قال أننا صنعنا تاريخا ، لأنها لأول مرة تنفذ بشكل تنظيمي ، و محترف ، و قال أنه يشعر و كأنه انتهى من ممارسة الجنس... الحقيقة ، هذا هو أقرب شعور يصف الحالة ، بكل مافيها من جنون و هدوء و عنف ، و خوف ، و قلق، و حب ، و تركيز ، و ترقب ، و سعادة و نشوة النهاية!

قررنا أن نمر على المكان لنراه في نور الشمس ، كانت قد مرت ساعة ، ذهبنا ، وجدنا صورة عمرودياب الكبيرة قد تم تلطيخها ، و تم رش ألوان زرقاء على الأعين و الوجه ، و أبيض على الشعر.. و قام مجهول بالرش على أعمال أخرى.
نظرنا جميعا مطولا في مجهود ليلة كاملة، و قد شوِّه، لم نحزن ، بالعكس .. ضحكنا...
كنا مدركين أن ما نفعله زائل ، و هذا هو صلب الأمر ...
كل شيء إلى زوال...
بهجة الحدث ، هي الأمر بعينه ، و لن نحظوا بكل شيء، في كل الوقت (قلت في نفسي بفلسفتي الفارغة)
ما قام به كريم في شارع الميرغني لن يستمر طويلا ، سيزول بعد أسبوع ، شهر ، أو سنة .
هذه هي طباع الأشياء .
و هكذا دوما تحدث .
للأسف...
و لنبتهج بالصور....




"لقطة تذكارية للرسامين نيام حول أحد الأعمال ع الأرض - قبل التنظيف الطفل الزبال توقف عن الشخر ، ووقف ليتصور معنا
الحذاء.... الارتفاع تجاوز المتر بقليل
شكل مفهوم طبعاالعم عمرو ، قبل و بعد التشويه (الفرق ساعة بس!) ـ

الجزء الأعلى فقط من عملي ، لذا سمينا العمل المشترك: عيب ترمي ودن يا باشا
(أظهر في الصورة بالمناسبة) ـ
المدونة و التدوينات ، بلا حقوق فكرية ، باستثناء الأعمال الفنية و الموسيقات فهي ملكية خاصة لأصحابها.

  ©o7od!. Template by Dicas Blogger.

TOPO